تقدير موقف

صراعات العنف والسلطة في سوريا!

انفجرت خلال الأشهر التي أعقبت الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 وسقوط نظام الأسد في سوريا صراعات عنفٍ غير مسبوقة، كان أكبرها وأخطرها: صراعات الساحل السوري وملحقاتها ولا سيما في حمص، والصّراع في السويداء وما حدث قرب دمشق في جرمانا وصحنايا من أحداثٍ ملحقةٍ به. وجرى في الحالتيْن إزهاق أرواح، وتدمير ممتلكات، والأخطر في تلك النتائج، أنّها ضربت عصب الانتماء الوطني، وأشاعت عند البعض عودةً إلى ما قبله من انتماءات، وزادت إلى ما سبق تهديد السلم الاجتماعي، وجعلت البلاد أقرب إلى احتمال حربٍ أهلية، قاومها السّوريون طوال نحو عقدٍ ونصفٍ العقد من سنواتٍ هي أسوأ ما مرّ على سوريا والسوريين في تاريخهم.

صراعات العنف والسلطة في سوريا!

على الرَّغم من الاختلاف في مُجريات وتفاصيل صراعات العنف في الحالتيْن، فإنّ العنف بدأ نتيجة خططٍ وجهود أدواتٍ منظمةٍ ذات صلاتٍ خارجية، أخذته إلى العمق، مما دفع قوات الأمن العام والجيش السوري للانخراط فيه وتصعيده، قبل أن تتدخّل قوى أخرى، أغلبها جماعات مُنظّمة ومُسلّحة محسوبة على العهد الجديد أو هي على حوافِه، ممّا جعل دوائر الصّراع المسلّح تتسع، وتُلقي بظلالها على عموم الساحة السياسية في البلاد، وتُجاوِزها بالتمدّد إلى المحيط الإقليمي والدولي، وقد صارت تعبيراته وتداعياته مكرّسةً، وبات من الصعب تجاهلها أو تجاوزها.

قوى مُسلّحة خارج إطار سلطة العهد الجديد عزّزت الفوضى والعنف ووسّعت الانقسامات الأهلية

وللحقّ فإنّ أسباب العنف تتجاوز دور القوى الداخلية التي حرّكتها سواء فلول النظام السابق في أحداث الساحل، والقوى "الاستقلالية" المحلّية في السويداء، كما تتجاوز دور قوى الدعم والمُساندة الخارجية وأبرزها إيران وما بقي من شراذم "حزب الله" وروسيا في الساحل، وتتجاوز دور الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، والتصعيد المتواصل في الدور الاسرائيلي على وقع تطوّرات الصراع في السويداء وامتداداته، ووصل الأمر في أهم أسباب صراعات العنف الذي جرى، وما يمكن أن يظهر في حلقاتٍ محتملة، إلى ما نشأ عن وقائع وسياسات العهد الجديد، من بيئاتٍ تخلق الصراعات وتغذّيها، والأبرز فيها:

- وجود قوى مُسلّحة خارج إطار سلطة العهد الجديد، تكرّست خلال تجربتيْن من عنفٍ منفلت، وضعت فيه تلك القوى نفسَها خارج إطار قوات الأمن العام والجيش، ولم تلتزم سياستهما، بل عزّزت، بما ارتكبته من جرائم القتل والدمار، الفوضى والعنف، ووسّعت الانقسامات الأهلية.

- توسيع قاعدة النّاقمين على العهد الجديد من خلال حملة تسريح العاملين وفيهم صغار العاملين في دوائر الدولة ومؤسّساتها، وبخاصة في قطاع الخِدمات والمرافق، وقطع مصادر عيشهم، ممّا انعكس سلبًا على حياة المُسرَّحين وعائلاتهم، وعلى دور وأداء المؤسّسات، وفاقم من تردّي أدائها تعيينات عاملين جددٍ أغلبهم لا يملكون مؤهّلاتٍ وخبراتٍ تتناسب والأعمال، التي أُسندت إليهم.

من المُفترض أن يكون الفقر والبطالة في أولويّات اهتمامات وعمل الحكومة

- تعطيل واسع في دور الدولة ودوائرها بما فيها دوائر ذات علاقة مباشرة بمصالح حيويةٍ ومنها تعطيل المحاكم والسجلّات المدنية ودوائر المواصلات والنّقل، بل إن التعطيل أصاب مصالح وقطاعاتٍ اقتصاديةً والمصارف، ممّا ضاعف ترديات الوضع الاقتصادي/الاجتماعي، وفاقم الفقر والبطالة اللذيْن كان من المُفترض أن يكونا في أولويّات اهتمامات وعمل الحكومة.

صراعات العنف، التي هزّت البلاد في الأشهر الأخيرة، عكست الالتباسات القائمة في سوريا داخل السلطة وفي المجتمع. ففي داخل السلطة تيّار رئيسي، يؤكّد أنّ الدور في الحياة السورية، هو دور الدولة، التي ينبغي أن تتحمّل مؤسّساتها ودوائرها مسؤولية الحياة العامة وإدارتها، لكنّ التفاعل العملي مع هذا التوجّه ما زال ضعيفًا، حيث الإمكانيات محدودة والخبرة لدى الكادرات ضعيفة، والتجربة المكتسبة من تجربة حكومة الإنقاذ لأسبابٍ موضوعيةٍ وعمليةٍ أعْجز من أن توفّر حدًّا أدنى لحكومةٍ سوريةٍ أمامها قدر كبير من التحدّيات والمشاكل في مقدمتها إعادة بناء مؤسسات الدولة وتشغيلها.

ينبغي أن تعتمد الحكومة خططًا وسياسات مختلفة عن مثيلاتها لدى "الهيئة"

وثمّة نقطة أخرى لا بُدَّ من التوقّف عندها، وهي تتصل بالدور الذي تقوم به "الهيئة"، أقصد "هيئة تحرير الشام"، داخل الحكومة وفي التأثير على قراراتها وسياساتها ومسارات العمل داخلها، وهو أمر يشكّل نوعًا من الازدواجية في إدارة الحكومة، التي ينبغي أن تعتمد خططًا وطرائق لها علاقات وسياسات مختلفة عن مثيلاتها لدى "الهيئة" إذا وُجدت.

تُعيد صراعات العنف بسبب مأساويّتها وخطرها على سوريا والسوريين طرح التحدّيات الأساسية على سلطة العهد الجديد بصورةٍ مُلِحَّةٍ وسريعة، لا تقبل تأجيل مواجهتها أو التساهل حيالها، أقلّه في ثلاث نقاط؛ أوّلها إنهاء ظاهرة الجماعات المسلّحة والسلاح خارج إطار الشرعيّة والتي تعني في سوريا اليوم قوات الأمن العام والجيش، والثانية تجريم كلّ الدعوات والانشطة الطائفية، وتجريم أصحابها، ومثلها التي تخرق وتُضعف السّلم الأهلي، والثالثة إنهاء حالة تعطيل وعطالة أجهزة الدولة ومؤسّساتها ورفع كفاءتها وأداء كادراتها بما يلبّي احتياجات السوريين، وإعادة النّظر بسياسات التسريح الجماعي، وسلّم الأجور والرواتب، وتخفيف أعباء الحياة وصعوباتها عن القطاعات والفئات الدنيا من المجتمع السوري، وهذه النقاط جزء من برنامج أوْسع، لا بدّ منه من أجل سوريا أفضل يسعى إليها السوريون.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن