وجهات نظر

انتصار الصحافيين المستقلّين و"مُتلازمة 25 يناير"!

لا يمكن حصْر هزيمة مرشّحي السلطة وفوز نقيب الصحافيين خالد البلشي ووكيل النقابة محمد سعد عبد الحفيظ الرّمزان الأبرز لتيار الاستقلال، في الإطار النّقابي المحدود ولا في إطار السياق المصري المحلّي فقط. الأدقّ هو فهم الحدث وفهم رسائله في إطار السياق العربي العام في ما يمكن وصفه بالهجمة الارتداديّة للربيع العربي الذي تمّ فيه تضييق هامش الحرّيات في الفترة التي سبقت هذه الثورات وما واكبها لفترةٍ قصيرة حتى في دولٍ عُرفت بتوسّعٍ في هذا الهامش مثل لبنان والمغرب.

انتصار الصحافيين المستقلّين و

تلعب المؤسّسة الأمنية العربية دورًا رئيسيًا في قيادة السياسة، بل وتنوب عنها أحيانًا. بتطبيق هذا النموذج العربي السائد على مصر لا يمكن فهم انتخابات الصحافيين من دون مناقشة ما أسماه البعض هيمنة ما يُسمّى بـ"مُتلازمة 25 يناير" على التفكير السياسي - الأمني للدولة في الأعوام الـ11 الأخيرة.

أربعة جوانب تتعلّق بهذه المتلازمة تُفسّر على الأقل جانبًا من جوانب المواجهة التي جرت في النقابة:

- سرديّة المؤسّسة الأمنية التي تقول: "إنّ ثورة 25 يناير ما كانت لتحدث لولا هامش الحرّية الذي أتاحه الرئيس محمد حسني مبارك للإعلام والمجتمع المدني في عشريّة حكمه الأخيرة. الهامش استغلّته المعارضة لتثور وتطيح برأس النّظام. هذه السرديّة جرى إقناع المستوى السياسي والإعلامي بها".

- السرديّة المضادّة التي قدّمها مثقفون ومعسكر "يناير": "الهامش المحدود الذي منحه مبارك هو ما جعله أطول الحكّام عمرًا في مصر الحديثة بعد محمد علي. مبارك الذي اتّصف عهده بالجمود كان قد فقد شرعيّته خصوصًا مع صعود مشروع التوريث، ولولا الهامش الذي سمح به للتنفيس عن غضب نقابات العمّال والحركات الاجتماعية كان محتومًا سقوطه في نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة".

كشفت الانتخابات أنّ هذا الجيل لا تخيفه القبضة ولا الإغراءات

- التعديل الجزئي الذي حدث في بنية مؤسسات القرار بعد تغيير قياداتٍ رئيسيةٍ في أكتوبر/تشرين الأول 2024 كانت قد مالت إلى التخفف من "مُتلازمة يناير" وفتح نافذةٍ ضيّقةٍ للغاية مع قسمٍ من النّخبة لتخفيف الاستقطاب. هذه القيادات التي لعبت أدوارًا ملموسةً في خدمة الرئيس ساعدت على قبوله الدعوة لحوارٍ وطنيّ في أبريل/نيسان 2022 وإطلاق عددٍ من سجناء الرّأي. وعلى الرَّغم من النتائج المُتواضعة للحوار فإنّ قنوات حوار خلقت ولم تعد القبضة الأمنية الخشنة محتكِرةً لعلاقة الطرفين. ومع خروج هؤلاء في تعديل أكتوبر 2024 وملء الفراغ في السلطة، بدا في الوضع الجديد فرصة هائلة للجناح الأعلى صوتًا ليعود القهقرى إلى مرحلة التعامل الخشن مع الجميع.

في هذا السّياق، جرت انتخابات الصحافيين برغبةٍ في سحق تيار الاستقلال ربّما تمهيدًا لسيناريو يحوّل النقابة بتعبير أحد الكتّاب الموهوبين إلى "سوبرماركت" أو شركة "بنزايون" للسلع المعمّرة. وجرى تفلّت تام من الكوابح التي عرفتها الدولة سابقًا في انتخابات النقابات المهنية والتي كانت تقضي بكياسة عدم إظهار الانحياز السّافر لمرشح الدولة، أو عدم تجاوز شرف الخصومة وعدم ممارسة الإكراه على الصحافيين لدعم مرشّحي السلطة وعدم استغلال فقر شبابهم بوعودٍ عن شققٍ وزيادةٍ في البدل النقدي. هذه القيود تمّ كسرها بخشونةٍ من أنصار المرشّح الحكومي بحملةٍ وُصفت من صحافيين بأنّها الأسوأ في تاريخ النقابة العريقة. حملة وصلت في استخدام سيف المُعزّ وذهبه إلى استعداء صحافيين كانوا يميلون عادةً للتصويت مع مرشّح الدولة. لكن الأخطر أنّها أعادت الاستقطاب السياسي وحوّلت المعركة في نقابة الصحافيين لمعركةٍ على امتداد الوطن، وضعت فيها هيبة الدولة في كفّةٍ وسقوط المستقلّين في كفّةٍ أخرى، فتحوّلت من انتخاباتٍ نقابيةٍ تحظى باهتمامٍ معقولٍ إلى صراعٍ سياسيّ بين الحكومة والمعارضة ومعركةٍ صفرية يُنظر فيها إلى كلّ فوز لطرفٍ كهزيمةٍ للطرف الآخر. وأدّى التصميم الزائف للحملة الحكومية، بأنّ المعركة هي بين مرشح الدولة و"شلّة اليسار من ناصريين وماركسيين"، إلى التسريع بمواجهةٍ لم تكن مطروحةً بين الدولة وأقسام من المعارضة. تحوّلت معركة نقابية بين زملاء بفعل اللّدد في الخصومة والإفراط في استعمال موارد السلطة إلى معركةٍ بين الدولة وبعض مواطنيها فاستفزّ ذلك أكبر حشدٍ وتصويتٍ في تاريخ النقابة ضدّ مُرشّح الحكومة وأساليب مؤسّساتها البخيلة بالسياسة والمُسرفة بأساليب الأمن.

- الجانب الرابع من "متلازمة ٢٥ يناير" هو تأكيد أنّ هذه الثورة لم تكن زوبعةً في فنجان، فهذه الانتخابات أوقفها الجيل الجديد من "أبناء يناير" الذين صوّتوا، بمن فيهم المنتمون لمؤسّسات الحكومة، لإسقاط مرشّح الحكومة. لقد كشفت الانتخابات أنّ هذا الجيل لا تخيفه القبضة ولا الإغراءات فالذي فضح محاولة إداريين إكراه صحافيين على تصوير بطاقة اقتراعهم ليتأكّدوا أنّهم التزموا بمرشّحي السلطة هم الشباب أنفسهم الذين بعثوا للنقابة بنماذج التهديد فمنعت اللجنة التصوير المُخالف للاقتراع السرّي وبالتّالي صوّت هؤلاء احتكامًا لضمائرهم.

الأمر سيطرح على دوائر القرار مراجعة الخطط الجاهزة لتحدّيين داخليين يهدّدان السلم الاجتماعي واستقرار النظام

قد يفتح الفشل في إدارة الانتخابات الباب لمراجعة "متلازمة يناير" واستبدالها بقدرٍ من الانفتاح. قد يدعو الدولة لإعادة النّظر في "أمْنَنَة السياسة" ومنح سلطاتٍ بلا حدودٍ وتحصينها من المحاسبة. وهنا يُقدَّر للدولة سلوكان يمكن البناء عليهما في سكّة إحياء السياسة وتهذيب الخشونة؛ الأوّل رفض التورّط في إعلان زياداتٍ ماليةٍ في وجود مرشّح الدولة، والتزام القضاة بإشرافٍ نزيهٍ وعدم تدخّل الحكومة لتغيير النتيجة.

هناك السيناريو المضادّ أن يُستعاض عن ذلك بالتهويل وتصوير فوز المستقلّين على أنه تهديد لاستقرار الحُكم وبطلب المزيد من سلطات المنع. لكن من المؤكّد أنّ الأمر سيطرح على دوائر القرار مراجعة الخطط الجاهزة لتحدّيين داخليين في 2025 يهدّدان السلم الاجتماعي واستقرار النظام هما: الخطط المُعدّة لانتخابات برلمانية مهندَسة بحيث لا يصل مؤيّد ولا معارض إلّا بموافقة السلطة، ومشروع قانون الإيجار القديم، الذي سبق لمبارك والسادات تفاديه، لرفعه المتوقّع وتيرة الصراع الطّبقي.

هي انتخاباتٌ بعثت لمصر ومنطقتها العربية بألف رسالة، فمَن يقرأ ومَن يتّعظ!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن