النّماذج كثيرة، بدايةً من حركات الخوارج في القرنين الأول والثاني الهجريَّيْن، التي كانت هبّات غضب أبناء قبائل مُهمّشة اقتصاديًا تسرْبلت سريعًا برداءٍ دينيّ متطرّف، حيث التكفير للمخالف حاضر والسيف مُشهر للمعارض، ثم ظهرت الحركة القبلية الممزوجة بدعوةٍ دينيةٍ والتي تنتهي بإقامة دولةٍ أو تنفصل بإقليم، وهو النّموذج الذي أفاض ابن خلدون في تحليله بناءً على نظرية العصبيّة.
الميليشيات أخذت مجتمعاتها في طريق التفكّك والفقر والانهيار والتقسيم وفتحت الباب أمام التدخّل الخارجي
كلّ هذا مفهوم في إطار الدولة القديمة التي لم يكن لديها القدرة على مدّ نفوذها على كامل الفضاء السياسي التي تدّعي حكمه، ما ساعد على ظهور قوى طرفيّة سرعان ما استغلّت ضعف المركز للهجوم عليه، ثم احتلال مكانه، نموذج كان سائدًا في العالم ما قبل العصر الحديث بنوعٍ من التعميم.
البعض في لحظتنا المعاصِرة يستعيد من التاريخ أسوأ ما فيه؛ جماعات مُسلّحة تنطلق تحصد كلّ ما أمامها لتصل إلى سدّة الحكم، هذا المنطق كان مفهومًا في العصور ما قبل الحديثة، قبل تبلْور الدولة الحديثة ومؤسّساتها، لكنّ نموذج أمراء الحرب الذي كان يجب أن ينتهي مع الدخول في العصر الحديث، عاش وتمدّد في ظلّ تجريف عقليّ وفقر مدقع وجهل مقيم وعنف ممنهج يُجهض أي حراك من أسفل، فلم تستطع المجتمعات العربية أن تُنظّم نفسها إلا بشق الأنفس، ولم تجد في تراثها ما يسند أي تجربة لخلق تجربةٍ سياسيةٍ معاصرةٍ تستطيع الاشتباك مع الزمن الذي تعيش فيه، بل فضّلت تيارات أن تُداعب الخيال الجمْعي لشعوبٍ مأزومةٍ ومهزومةٍ بالعودة إلى حديث الغزوات والغنائم والغزو وحُكم العنف ونبذ التنوّع، فاستقطبت هذه الجماعات المُسلّحة بصبغتها الإسلامويّة الشباب اليائس والهشّ لصفوفها.
الأنظمة استخدمت ألاعيب طائفية من منطلق "فرّق تسُد" بين أبناء نسيج المجتمع الواحد
منطق الميليشيا ومناصَرتها، تحوّل عند قطاعٍ من العرب - بخاصة من يؤمن بفكر الخوارج الذي أعيد بعثه في حلّةٍ جديدةٍ على يد الحركات الإسلاموية - إلى واقع، فأيّ مجموعة ترى في نفسها صاحبة الحقّ المُطلق في تحديد الصواب والخطأ، تنطلق تُخرّب وتقتل بلا أي منطق سوى الرّغبة في فرض تصوّرها الذاتي على المجتمع ككلّ، وسط احتفاءٍ من المغيّبين الذين تحوّلوا إلى وقود تدمير مجتمعاتهم، فكانت النتيجة أنّ الميليشيات التي ظهرت أخذت مجتمعاتها في طريق التفكّك والفقر والانهيار والتقسيم، وفتحت الباب أمام التدخّل الخارجي بجميع أشكاله ينهش في ما تبقّى من وطن.
لكن لا يمكن تحميل ازدهار الفكر الميليشياوي إلى ساحة الأفكار فقط، بل إنّ بروز الجماعات المُسلّحة عرض أصلي لفشل مشروع الدولة الوطنية، التي رفعت كثيرًا من الشعارات أخفى ضجيجها حقيقة تكوين طبقةٍ حاكمةٍ فاسدةٍ تتوارَث الحُكم داخلها، وتُصادر مداخيل الدولة العربية لصالحها، الأمر الذي قاد إلى روح يأسٍ عامة وسط قطاعاتٍ عريضةٍ من الشعوب العربية، خصوصًا أن الأنظمة استخدمت ألاعيب طائفية من منطلق "فرّق تسُد" بين أبناء نسيج المجتمع الواحد، ما عزّز من الروح الانفصالية عند أقلّياتٍ لم تجد العدل والإنصاف عند أنظمةٍ لم تُفكّر إلّا في احتكار السلطة واستمراريّتها، بغضّ النظر عن الجرائم التي ترتكبها، فوصلنا إلى تفجّر اليأس في صورةٍ مشوّهةٍ هي الجماعات المُسلّحة التي رفعت شعاراتٍ دينيةً متطرّفةً ساعدت على زيادة معدّلات تقسيم المجتمعات وقادت إلى احترابٍ أهلي.
يجب البحث عن طريق ثالثة تخرج بنا من الخيار السامّ بين الديكتاتوريّة والميليشيات
إنّ أيّ إطلالة على خريطة العالم العربي سيُلاحظ صاحبُها تشكيلةً واسعةً من الميليشيات كبؤرٍ سرطانيةٍ في الجسد العليل، يعني هذا أنّ الأمر يحتاج إلى خطابٍ تقوده النُّخب المثقّفة الواعية بدورها، يقوم على المصارَحة بالحقائق، ومكاشفة الشعوب بالواقع كما هو، لا أن تقول ما يُطرب ولو كان كذبًا بواحًا، والبداية بقطع الصّلة بالتاريخ الميليشياوي ونبذ الاحتفاء بالعنف للعنف، وتركيز الخطاب على كرامة المُواطن العربي وحقّه في الحياة بما يعني ذلك من حقوقٍ من ناحيةٍ، والتأكيد على معاني المعركة الحضارية حيث العلم هو العملة الرّائجة الوحيدة من ناحيةٍ أخرى، فضلًا عن البحث عن طريقٍ ثالثةٍ تخرج بنا من الخيار السامّ بين الديكتاتوريّة والميليشيات.
(خاص "عروبة 22")