تقدير موقف

الولايةُ الـ51!

لَمْ يَكُنْ الخطابُ الرسميّ المَمْهورُ بتوقيعهِ النَّرْجِسيّ الضّخم الذي يطلب فيه رئيسُ الولايات المتحدة "الأميركية" من رئيسِ دولةِ "إسرائيل" أن يُصْدِرَ عَفْوًا عن رئيس الوُزراء الذي يُحاكَمُ بتهمة الفساد، أكثرَ من دَلالَةٍ على علاقةٍ "غير طبيعية"، بين واشنطن (العاصمة) والكيان. في زَمَنِ المُتَباهينَ، أو المُطالبينَ غَيْرهُم "بالتَّطْبيع" الإبراهيميّ، وَجَبَ علينا أن نفهم جيدًا، ثمّ أنْ لا نَتَجاهَلَ أبدًا، حقيقةَ وَمُتَرَتِّباتِ تلك العلاقة التي لا تبدو أبدًا "طبيعية".

الولايةُ الـ51!

قَبْلَ يَوْمَيْنِ فقط، وقبل أيامٍ من زيارةٍ "مرتقبةٍ" لولي العهد السعودي إلى واشنطن، أَعادَتِ الصحفُ الإسرائيليةُ نَشْرَ تَقْريرٍ (كاشفٍ) نشرته الـ"نيويورك تايمز" الخميس، تناوَلَ تقريرًا للبنتاغون يُحَذِّرُ من أنّ إتمام الصفقةِ المُحْتَمَلَةِ لبيع "طائراتِ F-35" المُقاتِلةِ إلى المملكة، من شأنه أن يُهَدِّدَ "التفوّقَ الإسرائيلي في المنطقة" (Israel's military edge in region)، يا له من تعبيرٍ كاشفٍ عن حقيقة التَّرْتيباتِ الأميركية/الإسرائيلية لشرق أوسطٍ جديدٍ، ومكانِ/مكانةِ كلِّ طرفٍ فيه، وهو ما أَشَرْنا إليه هنا مِرارًا وتَكْرارًا، في محاولةٍ للتنبيه إلى حقيقة "المُخطّط"؛ المُعَلَّبِ بأحاديث ترامب/نتنياهو البرّاقةِ عن التعاونِ والرّخاءِ الاقتصاديّ.

يُذكِّرُنا تقرير/تحذير وزارة "الحرب" الأميركية الأخير، بما جرى قبل سنواتٍ بشأنِ صَفْقَةٍ مُماثِلَةٍ مع الإمارات العربية المتحدة، كانت الإدارة الأميركية قد وافقت عليها كجزءٍ من اتفاقات "أَبْراهام التَّطبيعية" (2020)، إلّا أنّها سُرْعانَ ما أوقفتها بعد أشهرٍ "لمزيدٍ من المُراجعة" (for further review) قبل أن تضع "شُروطًا" لإتْمامِها؛ أهمُّها وضعُ تِقْنِيَةِ "kill switches" والتي تُتيحُ للأميركان إمكانيّةَ تعطيل عمل المُقاتلات عن بُعدٍ في أيّ وقت. وهو ما ترتّب عليه تعطيل اتفاق الصفقة بأكملهِ، وإنْ بقي اتفاقُ التَّطبيع قائِمًا.

أميركا التي تتردد في إتمام صفقة F35 مع السعودية أنفقت 22.76 مليار دولار على المُساعدات العسكرية لإسرائيل في عام

تدقيقًا للمُصْطَلَحات، واللّغةُ تظلّ دالَّةً بالتعريف، لم تَعُدِ العلاقات "اللّاطبيعيةُ" بين الدولة الأقوى في العالم، والكِيان الأصغر، وإنْ كانَ الأقوى واقعيًا في منطقتنا العربية، مجرّد علاقاتٍ خاصّةٍ (special relationship) كما هو المُصْطَلَحُ الذي صاغه جون كينيدي (1962)، مُقارنًا بينها وبين تلك التي تربطُ بلادَهُ ببريطانيا (إمبراطورية الغرب الاستعمارية القديمة)، بل "استراتيجيةً"، كما وصفها جو بايدن (2013)، أو بصيغةٍ أوْضَح: "إذا لم تَكُنْ هناك إسرائيل في الشرق الأوسط، لَتَعَيَّنَ علينا اختراعُها"، كما قال نصًّا، في حضرة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، قبل أيامٍ فقط من السابعِ من أكتوبر/تِشْرينَ الأول 2023 (رابطُ التصريح على الموقع الرسمي للبيت الأبيض هنا). هو كان قد قال المعنى ذاتَهُ قبل ذلك بعقودٍ، وتحديدًا في الخامس من يونيو/حُزَيْران 1986.

بِالأَرْقام: الولايات المتحدة الأميركية التي أَوْقَفَتْ صفقةَ مُقاتِلاتِ F35 مع الإمارات، وتتردّد اليوم في إتمامِ الصفقة ذاتِها مع السعودية (على الرَّغم من أنّها ستتقاضى الثمن كاملًا في الحالتَيْن) لم تتردّد في إِنْفاقِ ما لا يقلُّ عن 22.76 مليار دولارٍ على المُساعداتِ العسكريةِ لإسرائيل في عامٍ واحدٍ فقط. هل ثمّة مبالغةٌ لغويةٌ في القول بِأَنَّها "الولايةُ الواحدةُ والخمسونَ" أو كأنّها كذلك؟.

أن تتحالف دولةٌ مع أخرى أمرٌ طَبيعيٌّ في العلاقات الدولية لكن ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل يتجاوزُ ذلك بكثير

يَكْفي أن نرى المُطابقةَ بين الموقف الأميركي من مُحاوَلَةِ المحكمة الجنائية (الدولية) ملاحقةَ جنودٍ أميركيّين، بموقفِها من مُلاحقةِ المحكمة ذاتِها لمسؤولين عسكريين إسرائيليين. ففي 2020، أصدر دونالد ترامب (الرئيس الأميركي) أمرًا تَنْفيذِيًّا بِفَرْضِ عقوباتٍ على قُضاةِ المحكمة، عندما حاولت فتح تحقيقٍ في الجرائم الأميركية في أفغانستان. وهو الأمرُ ذاتُهُ الذي تكرّرَ (حَرْفِيًّا)، بإصدارِ أمرٍ تنفيذيّ "عقابي" مشابهٍ بعد أن قرّرت المحكمة مُلاحقة بنيامين نتنياهو ووزيرِ حربهِ بِالتُّهَمِ ذاتِها.

الموقفُ المُتطابقُ من حماية الإسرائيليين كما الأميركيين، تكرّر مع محكمة العدل الدولية، والتي تنظر في أمرِ المُخالفاتِ القانونيةِ للدول لا الأفراد، إذ لمْ يَخْتَلِفِ الموقفُ الأميركي من المحكمة (وَالطّعنِ في اختصاصِها) بشأِن دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل بسبب ما ترتكبُه في غزّة، عن موقفِها من المحكمةِ ذاتِها حين رَفَعَتْ نيكاراغوا في الثَّمانينِيّاتِ قضيةً أمام المحكمة بسبب دعم واشنطن لِمُتَمَرِّدي "الكونترا".

بالمناسبة، لم يَتَرَدَّدْ مايْك بومْبِيو، وهو كان وزيرًا للخارجية ومديرًا لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، في الردّ على إقدامِ محكمة العدل (الدولية) على النّظرِ في ما وُجِّهَ لإسرائيل من اتهاماتٍ باتهام المحكمةِ بالفساد، وبِعَمالَتِها لـ"حماس" (هكذا)، فضلًا عن التَّحْقيرِ من شأنِها، وَوَصْفِها بـ"kangaroo court".

وبعدُ،

فلا جديد بالطبع في أن تتحالف دولةٌ ما، مع دولةٍ أخرى لوقتٍ طالَ أو قَصُرَ، فهذا طَبيعيٌّ في الدّيبْلوماسِيَّة، والعلاقات الدولية، والتاريخ. ولكن ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل يتجاوزُ ذلك بكثير.

نرى جهدًا أميركيًا محمومًا في مجلس الأمن لتقنين "أَمْرَكَة" القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة

كما أنَّ لا جديد في أيّ حديثٍ عن الانحياز الأميركي للدولة اليهودية/الصهيونية، بل والتَّماهي معها (بايدن كان يتباهى بكونِهِ صُهيونيًا)، ولكنَّ التَّذْكيرَ بالبدهيّات يبقى واجِبًا ولازِمًا حين يبدو أنَّ هناك من يُحاول أن يتناساها، أو أن يُنْسينا إيّاها؛ ترحيبًا (عربيًا) مُبالغًا فيه، وفي أكثر من مناسبةٍ بـ "الرئيس الأميركي الأقرب لإسرائيل في التاريخ"، كما وصفه نتنياهو. ترحيبًا عربيًا وصل إلى حدّ مُبايعته للحصول على نوبِل "للسلام"، لا غيرِها (!). والأَدْهى، ليس فقط التَّماشي مع خطته "العشرينيّة" لغزّة؛ من باب "مُكرهٌ أخاكَ لا بطلَ"، بل والتسويقُ لها، أو السكوت عمّا في تفاصيلها من شياطين، غافلين، أو مُتغافلين عن حقيقةِ أنّها ليست خُطَّةً لغزّة، أو حتَّى لاحتلالِها (واقعيًا، وعمليًا) بل لشرقِ أوسطٍ "تحتفظُ فيه إسرائيل بِالْغَلَبَةِ"، كما يقول تقرير البنتاغون المُشارُ إليه في بداية المقال، أو بالأحرى: شرقُ أوسطٍ "على مقاسٍ إسرائيليّ"، كما قال الرئيس الأميركي نفسُه. بغضّ النظر عن مهارتِهِ، ككلّ السَّماسِرَةِ والمُسَوِّقينَ في "التَّعْليبِ البَرّاقِ" للبضاعةِ الفاسدة. ففي كلّ لسان ما يفضحُ صاحبه، كما يقول العرب.

لِذا قد يَلْزَمُ التذكير أحيانًا بما هو بَدَهِيٌّ، على الرَّغم من العِلم المُسبق بِبَدهِيَّتِه، خصوصًا ونحن نرى جهدًا أميركيًا مَحْمومًا في مجلس الأمن لتقنين "أَمْرَكَةِ" القضية الفلسطينية، ومستقبل المنطقة، ووضعهما تحت وِصايَةِ "الرئيس الأميركي الأقرب لإسرائيل في التاريخ"، كما وصفه نتنياهو... فقط أُذَكِّر.

أيًّا كان الأمر، وأيًّا كان ما سنشهده في نيويورك، وواشنطن هذا الأسبوع، من صدًى إسرائيليّ، فهذه هي أميركا "الآن"، أمّا أميركا "في قادمِ الأيام"، فهذا موضوعٌ آخر، لمقالٍ آخر.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن