يَطْرَحُ واقعُ الحال العربي (وَإِنْ بدرجاتٍ ومحتوياتٍ مختلفةٍ) في النموذجَيْنِ ضرورة الذهاب في عملياتِ إصلاحٍ وتغييرٍ تُناسب ظروف واحتياجات كلّ بلدٍ من جهةٍ، وعمليات إصلاحٍ وتغييرٍ عامّةٍ، تشملُ المُحيطَ العربيّ، مساهمةً في خلق بيئةٍ إقليميةٍ تدعمُ عمليات الإصلاح والتغيير في بلدان الجوار، لأنّ عمليات الإصلاح والتغيير لم تَعُدْ ممكنةً داخل الأَسْوارِ الحَديديّةِ من جهةٍ ثانيةٍ. ووسط تلك الصورة يمكنُ فهمُ المساعي العربية، التي طُرِحَتْ في العقود الأربعة الماضية سَعْيًا إلى إصلاحٍ عربيّ، يشمل البلدان من جهةٍ والعلاقاتِ البَيْنِيَّةَ من جهةٍ أخرى، تَشارَكَتْ في طرح مشروعاتها قوى وجماعاتٌ سياسيةٌ ومؤسّساتٌ أكاديميةٌ ومؤسّساتُ عملٍ عربيّ مشتركةٍ بما فيها القمّة العربية، التي شَكَّلَتْ هواجس الإصلاح والتغيير بعض موضوعاتها اعتبارًا من قمّة عَمّان العربية 1980، التي صادَقَتْ على استراتيجية العمل الاقتصادي العربي حتّى العام 2000.
حاجة كلّ بلد من البلدان العربية إلى التنمية والإصلاح مختلفة على الرَّغم من العموميّات المشتركة
غير أنّ النتائجَ العمليةَ للجهود كلّها لم تُحَقِّقْ أيّ تقدُّمٍ مُهِمّ. بل تجاوزت الأمور ما سبقَ، وذهبت إلى الأسوأ مع أواخر العقد الأول من القرن، عندما انْدَلَعَتْ موجات الرّبيع العربي، وقد أَوْصَلَتْنا أنظمتُنا إلى ما نعرفه من أوضاعٍ كارثيّةٍ، تَناغَمَتْ مع حروبٍ دوليةٍ وإقليميةٍ وداخليةٍ، أَنْتَجَتْ دولًا مُدمَّرةً ومُفْقَرَةً وشعوبًا مُهجَّرةً، وأزماتٍ ليس لحلّها من آفاقٍ واضِحة. وهذه حالُ بلدانٍ منها ليبيا والسودان واليمن وفلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وبلدانٍ حالُها أقلّ سوءًا منها الأردن ومصر واليمن وتونس والجزائر والمغرب، وكلّها بحاجةٍ إلى عملياتِ إصلاحٍ، تُتابع نماذجَ منها بعض بلدان الخليج العربية وفي مقدّمتِها المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية.
وَوَفْقَ الخريطة العربية، فإنّ حاجةَ كلّ واحدٍ من البلدان إلى التنميةِ والإصلاحِ مختلفةٌ على الرَّغم من العُمومِيّاتِ المُشتركةِ بما فيها الإصلاحات في العلاقاتِ البَيْنِيَّةِ وفي البيئة الإقليمية، وقد كَثُرَتِ الأفكار والأطروحات والنقاشات العربية حول المطلوب من أجل مسارٍ عربيّ نحو التنمية والإصلاح وإخراج العرب شعوبًا ودولًا ممّا صاروا فيه، ودَفَعَهُمْ للمشاركة في مسارات التقدّم والتعاون العالمي.
غير أنّ تحقيقَ تلك المساعي لن يكون عبر طريقٍ أو خُطَطٍ واحدةٍ نظرًا للاختلافات القائمة بين البلدان وفي ظروفِها، الأمر الذي يفرضُ توفيرَ إراداتٍ سياسيةٍ وعمليةٍ للسير في طريق المساعي المَنْشودَةِ، والعمل على خَطَّيْن: أوّلهما رَسْمُ خريطة الواقع والاحتياجات والأهداف من جهةٍ، ثم التدقيقُ في تجاربِ النهوضِ والتنميةِ، التي تكرّست في تجارب العالم سواء تلك التي استهدفت دولًا مثل مشروع "مارشال" الذي طرحته الولايات المتحدة لإخراجِ أوروبا ممّا خَلّفَتْهُ الحرب العالمية الثانية، وشمل بلدان بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فحقّق تَحَوُّلًا في واقعها ومستقبلها. وثمّةَ نموذجٌ آخر، تُمثّله خطّة النهوض الإسباني نحو التحوّل الديموقراطي، التي اعتمدَت بصورةٍ أساسيةٍ على المساعدة الأوروبية، التي وضعت الكثيرَ من قدراتِها لإخراج إسبانيا من تداعيات دِكْتاتورِيَّةِ فرانكو وإدخالها مسارَ الاتحاد الأوروبي في النِّصْفِ الثاني من السَّبْعينيَّات.
وبِخِلافِ تجربةِ الدولةِ التي ساعدت دُوَلًا، أو الدول التي تَشارَكَت في إنهاض دولة، ثمّة نماذج حيث قامت الدولة ذاتُها بخطواتِ نهوضٍ وتنميةٍ للخروج من تَرَدِّياتِها ومشاكلِها والانطلاقِ نحو المستقبل. ولعلّ أهمّ تلك التجارب ما قامت به جمهورية الصين الشعبية، التي أحدثت تحوّلًا استراتيجيًا في مساراتِها السياسيةِ والاقتصاديةِ في النّصفِ الثّاني من سبعينيّات القرن الماضي عبر تحرير طاقاتها وقدراتها واقتصادها، لتصلَ اليومَ مرحلةَ التنافسِ على مركز الصّدارةِ في عالم اليوم.
المثالُ الثاني هي رواندا الدولةُ الأفريقيةُ الصغيرةُ، التي حقّقت في وقتٍ قليلٍ قفزةً هائلةً في كلّ المجالاتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ على الرَّغم من إمكانياتِها المحدودة، والدّمار البشريّ والمادّي الهائل الذي أصابها بفعلِ تَقاتُلِ أكبرَ إِثْنِيّتَيْنِ فيها أواسط التِسْعينيّات، حيث قُتِلَ نحو مليون شخص في أقلّ من شهرِ واحد.
وأدَّتِ الكارثةُ إلى ولادة نظامٍ جديدٍ، أخذ على عاتقه إعادةَ بناء الدولة على أُسُسٍ، أوّلُها: رؤية قيادية حازِمة وأهداف قابلة للقِياسِ والتعديلِ في سياق عملٍ مُؤَسَّسيّ مَضبوط، والثاني وضعُ وتنفيذُ برامج تدريب وإعادة تأهيل الكوادِر، ومُشاركة النساء في عملية البناء وفي تولّي مناصبَ قياديةٍ، والاستعانةُ بالخبرات الدولية، والثالثُ مكافحةُ الفسادِ وإطلاقُ مؤسّسات الرّقابةِ ورفعُ شعارِ "صِفْرِ تَسامُحٍ" تجاه الفساد، وتأسيسُ هيئاتٍ رقابيةٍ مثل ديوان المظالِم ومكتب المُراجِعِ العام، وإطلاقُ حملاتِ التوعية والمُشاركة في المُجتمع، وقد تَعَزَّزَتْ تلك الأُسُسُ بفكرة استعادة الثقة بين الدولة والمجتمع، وتعزيز فكرة الانتماء إلى الدولة الوطنية.
والمثالُ الثالثُ هو تجربة سنغافورة التي تحوّلت في عقودٍ قليلةٍ من دولةٍ صغيرةٍ فقيرةٍ بِمَوارِدَ محدودةٍ، إلى قوةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ ومُتقدّمةٍ من خلال استراتيجيةٍ وطنيةٍ جمعت عَبْرَ مُخَطَّطٍ طويل الأمد، الاستثمارَ في الإنسان، والتطوّر التكنولوجي، والحَوْكَمَةَ الرشيدة، شَكَّلَ أدواتِ قوتِها في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيزَ الشفافيةِ والنزاهةِ، وبناءَ بيئةٍ استثماريةٍ مستقرّةٍ وجاذبةٍ، وتطويرَ البنية التحتية للمُدن والمَوانِئِ والنقل لتسهيل التجارة والخدمات، والتركيز على التعليم الفنّي والمِهَنِي، وتدريب الكَوادِرِ لتوفير قوةٍ عاملةٍ مُؤَهَّلَةٍ تدعمُ الصناعةَ والخدمات الحديثة. وأضافَتْ إلى ما سبقَ دخولًا نشطًا إلى مسار التَحَوُّلِ الرقميّ والتكنولوجيا ومنه تأسيسُ منصّاتٍ رقميةٍ موحّدةٍ للخدمات الحكوميّة، واستخدامُ الذكاء الاصطناعي وتحليلُ البيانات الكبيرة في تَحْسينِ إدارةِ المُدن والخدمات العامة.
نجاحات تجارب التنمية والإصلاح تفتح بوّابات للخروج ممّا تراكم من مشاكل وكوارثَ ناتجة عن سياسات وصراعات وحروب
دَمَجَتْ حكومةُ سنغافورة بين الاقتصاد والتنمية الاجتماعية، فجعلت النموَّ الاقتصاديّ مُستدامًا ويأخذُ بِعَيْنِ الاعتبارِ الاستقرارَ الاجتماعيّ، إذ وَفَّرَتْ مَساكِنَ وخدماتٍ عامّةً مُتطوّرةً، وعَزَّزَتِ التدريبَ والتعليمَ لتحسين مستوى المعيشةِ وتقليل البطالة والفقر، ودعمت الابتكارَ وريادة الأعمال وشجّعت الشركات الناشئة، وَوَظَّفَتِ الذكاءَ الاصطناعيّ في مختلف القطاعات، وكلّهُ جعل سنغافورة مركزًا ماليًّا وتجاريًّا عالميّا.
إنَّ نجاحاتِ تجاربِ التنميةِ والإصلاحِ، تفتحُ بَوّاباتٍ أمام الواقع العربي في بلدانِهِ وعلاقاتهِ البَيْنِيَّةِ للخروج ممّا تَراكَمَ من مَشاكِلَ وكوارثَ ناتجةٍ عن سياساتٍ وصراعاتٍ وحروبٍ، آن لها أن تتوقّفَ، وهذه نتيجةٌ حاضرةٌ في حياة وأفكار الكثير من العرب. لكنّ الذّهاب عمليًّا إليها ما زال مُتعثّرًا ومُتردّدًا وحذرًا، على الرَّغم ممّا قامَتْ به دولٌ عربيةٌ من مُبادراتِ تنميةٍ وتطويرٍ، أبرزها ما قامت به السعودية وقطر والإمارات ودولٌ أخرى بشكلٍ جزئيّ. لقد آن الأوانُ ليكون السير باتجاهِ التنميةِ والتقدّمِ عامًّا في البلدان العربية.
(خاص "عروبة 22")

