وجهات نظر

متى تخرج "صحّة مصر" من العناية المركّزة؟

حتى مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن مصر قد عرفت الطبّ الحديث ولا مدارسه، إذ كان أهلها يعتمدون في علاجهم على وصفات العطّارين وبعض المغاربة الذين كانوا يستخدمون الأعشاب والحجامة والكيّ وغيرها من الطرق التقليدية.

في تلك الآونة كانت مصر تئنّ تحت سلطة أمراء المماليك الذين كانوا يحكمونها بمراسيم تصدر من العثمانيين، وكان هؤلاء وأولئك يكرهون العلم والصناعة وكل ما له علاقة بالحداثة. ثم انتهى حكم المماليك على يد الحملة الفرنسية التي ظلّت في مصر 3 سنوات حتى عام 1801، وبعد 4 سنوات وصل محمد على باشا إلى حكم البلاد ليبدأ تنظيم أحوالها وإلحاقها بركب الحداثة.

متى تخرج

في عام 1821، كلّف محمد علي الطبيب الفرنسي أنطوان براثيليمي كلوت‏ بوضع خطة لتأسيس منظومة متطوّرة للتعليم الطبي على الأُسس الأوروبية، استعان "كلوت بك" بعدد من الأطباء الفرنسيين والطليان لإنشاء أول مدرسة للطب الحديث في منطقة أبي زعبل شمال شرقي القاهرة وتمّ افتتاحها عام 1827.

وفي عام 1838 نُقلت المدرسة إلى وسط القاهرة وعُرفت بمدرسة "قصر العيني"، والتي كان لها أبلغ الأثر في تحسين ظروف المصريين الصحية، تأسّست داخلها إدارة عُرفت بـ"مشورة الطب"، وفي وقت قصير نجحت في إنشاء مكاتب صحة ومستشفيات عمومية ووحدات لمكافحة الأوبئة في أحياء القاهرة ومدن الأقاليم، ونتج عن تلك الإجراءات زيادة عدد سكان القطر المصري إلى أضعاف ما كان عليه في القرن الثامن عشر.

ما شهدته مصر خلال السنوات الأخيرة أدى إلى تآكل المنظومة الطبية وفقدانها للكثير من مقدراتها

مرّ ما يقرب من قرنين على انطلاق أول مشروع لنشر الطب والتعليم الطبي الحديث في مصر، تغيّرت في تلك المدة الطويلة أحوال البلاد وتبدّلت أنظمة حكمها، من خديوية تتبع الدولة العثمانية، إلى ملكية تخضع للاحتلال الإنجليزي، إلى جمهورية تأسّست قبل نحو 8 عقود على أنقاض حكم أسرة محمد علي.

ورغم أنّ البذرة الأولى للمشروع وضعت قبل 200 عام تقريبًا، وأثمرت منظومة طبية جعلت لمصر الريادة والتفوّق على مستوى الإقليم كلّه، فإنّ ما شهدته البلاد خلال السنوات الأخيرة، من حكم الرئيس الراحل حسني مبارك ثمّ في ظلّ النظام الحالي، أدى إلى تآكل هذه المنظومة وفقدانها للكثير من مقدراتها، نتيجة إهمال حكومات أسرفت في الصرف على الحجر وضنت على أكثر ما يحتاجه البشر وهو التعليم والصحة، ذلك أن لا أحد يراقبها ولا يحاسبها على إهدار المليارات في إنشاء مدن صحراوية وساحلية لا يستفيد منها سوى الأثرياء، وقد لا يستفيد منها أحد، فيما تُقتر على مشروعات بناء البشر الذين هم الرصيد والثروة الحقيقة لأيّ دولة تبغي التقدّم والرقيّ.

لم يكن من المستغرب في ظلّ تلك الأوضاع أن يصدر في عامين متتاليين تقريران عن نقابة الأطباء المصرية يحذّران من كارثة هجر الأطباء للقطاع الصحي الحكومي، بل وللبلاد كلّها.

البيان الأخير الذي صدر قبل أيام، لفت النظر إلى أزمة "نيابات الأطباء المكلّفين من وزارة الصحة للعمل في المستشفيات الحكومية"، وأشار إلى وجود عجز كبير في عدد من التخصّصات منها "الأشعة، الأنف والأذن، التخدير، العناية المركّزة، والنفسية".

كما كانت نقابة الأطباء قد أصدرت بيانًا آخر العام الماضي يشير إلى استقالة نحو 18 ألف طبيب من العمل الحكومي خلال الفترة من 2016 وحتى مارس 2022.

البيان نقل عن دراسة أعدّتها وزارتا الصحة والتعليم العالي في 2019، معدّلات هجرة الأطباء من العمل في القطاع الحكومي، مشيرًا إلى أنها بلغت نحو 60% من إجمالي عدد الأطباء، بحيث "بلغ عدد الأطباء البشريين الحاصلين على ترخيص مزوالة المهنة ما يقرب من 213 ألف طبيب، يعمل منهم فعليًا في الجهات الحكومية المختلفة 82 ألفًا فقط، بنسبة 38% من العدد الإجمالي".

مقابل هذا العجز المتزايد في أعداد الأطباء، مع وجود سوق رائجة لهم في الخارج، تواصل الحكومة تقليص أعداد المقبولين في كليات الطب الحكومية التي ما زالت الجهة الأكثر تأهيلًا لتخريج أطباء لديهم الحد الأدنى من المعرفة والمهارة ويحصلون على الاعتراف الدولي بسهولة، لصالح كليات الطب بالجامعات الخاصة أو الأهلية والتي تتجاوز مصروفاتها إمكانيات معظم المصريين، ويفتقد أغلبها للتجهيزات اللازمة لإنجاز العملية التعليمية على الوجه المقبول.

السلطة غضّت الطرف عن كل الدعوات التي تطالبها بوضع الصحّة والتعليم على رأس أولوياتها

هذه المعادلة سيّئة السمعة تحرم مصر من الاستفادة من آلاف الشباب الذين حقّقوا نتائج جيدة في شهادة الثانوية العامة، وحالت محدودية الأماكن في كليات الطب الحكومية دون الالتحاق بها، وفي الوقت نفسه لا يملك أهلهم المال اللازم لإلحاقهم بالجامعات مدفوعة الأجر، مقابل فتح الباب أمام أعداد كبيرة من الطلاب الذين لا يمتلكون المهارات العلمية والعقلية اللازمة لدراسة الطب لكي يلتحقوا بالجامعات الخاصة والأهلية.

والحقيقة أنّ جوهر أزمة المنظومة الصحية في مصر ليست في هجرة الأطباء فحسب، بل إننا يمكن أن نحوّل هذه الهجرة إلى ميزة تستفيد منها البلاد، باعتبار المصريين العاملين في الخارج أكبر مصدر للعملة الأجنبية، إذا ما زادت الحكومة مخصّصات التعليم الطبّي الحكومي، ووفّرت أماكن أكثر أمام طلاب الثانوية العامة المؤهلين لدراسة الطب في الكليات الحكومية، فنوفّر احتياجات السوق المحلية من الأطباء ونعزّز الحضور المصري في الخارج، فيستفيد الجميع.

تعلم السلطة في مصر تمامًا أسباب هجرة الأطباء ولديها تقارير عن الأزمة وتوصيات لكيفية تجاوزها، لكنها للأسف تجاهلت كل ذلك ولم تضع حتى تاريخه خطة واضحة كي تخرج المنظومة الطبية من العناية المركّزة التي تجمّدت بها لعقود، وغضّت الطرف عن كل الدعوات التي تطالبها بوضع الصحّة والتعليم على رأس أجندة أولوياتها، باعتبارهما القاعدة الأولى لبناء الدولة الحديثة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن