يأتي "الإبداع الأدبي" في مقدّمة الإبداع الإنساني... وهو يتطوّر بيننا يومًا بعد يوم، حتى وصل أخيرًا إلى صورته الكوكبيّة عبر المجتمعات الافتراضية والشبكات الحاسوبية العالمية، فيما يُعرف بـ"الأدب الإلكتروني" (Electronic Literature). نجد أنَّ هذا الأمر، يفرضُ سؤالًا مُقلقًا في ثقافتنا ولغتنا العربية، حيث إنه منحًى أدبيّ جديد كلّ الجِدّة عن التطورات الأدبية السابقة.
وعلى الرَّغم من أنّ اللغة العربية لها شأنٌ كبيرٌ وعريقٌ في عالَم الأدب والإبداع اللغويّ، لكنّها بمقاييس عالَم اليوم واستخدامها في الوسائل الرّقميّة وإمكانات التكنولوجيا ما بعد الحديثة، فهي لا شكَّ متخلّفة نسبيًّا عن ركب الحضارة البشرية الحالية.
أين نحن من التقدّم الثقافي العالمي ضمن ما يُعرف بالثقافة الكونية والتطوّرات التّكنولوجية الخطيرة؟
في أواخر السنة الماضية 2024، نشرت "منظمة الأدب الإلكتروني الدولية (ELO)" إعلانًا عن عزمها وإعدادها لعقد مؤتمرها العِلميّ الخامس والعشرين عن الأدب الإلكتروني، في الشهر المقبل (يونيو/حزيران) من هذا العام 2025، بمناسبة ذكرى تأسيسها الخامسة والعشرين.
اللّافت في هذا الأمر هو المَحاور والموضوعات التي تطرحها هذه المنظمة للبحث والدرس والنقاش، وتطلبُ ورقاتٍ بحثيةً بشأنها، خاضعةً لتقييم البحث العِلمي الدقيق. وهي موضوعات تبدو بعيدةً عنّا نحن العرب بصفةٍ عامّةٍ في مسيرة حركتنا الأدبية والثقافية، على أهمّيتها الكبرى لجميع المجتمعات البشرية.
ويظلُّ التساؤل قائمًا: أين نحن من مثل هذه الموضوعات؟ التي تُعبّر عن اهتمام دوائر الأدب الغربي في إطار التقدّم الثقافي العالمي، وضمن ما يُعرف بالثقافة الكونيّة، وضمن التطوّرات التّكنولوجية الخطيرة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ليس أقلّها البرمجيّات الذّكية وخوارزميات الذّكاء الاصطناعي وتكنولوجيا البيانات الضخمة. أيضًا الموضوعات والمحاور الأساسية التي يعي أصحابها من أعلام الأدب الغربي المبرزين خطورة مساهمتها في التغيّر الاجتماعي الكوكبي، وكيف يمكن لمثل هذه التوجهات الأدبية أن تصنع عالَمًا جديدًا مرتَقبًا في هذا القرن.
هل نحن العرب اليوم من أبناء هذا الكوكب في هذا القرن الحادي والعشرين، أم نحن غير ذلك؟... أين نحن - بني "قفا نبكِ" - من كلّ هذا؟ أونحنُ حقًّا نعيش هذا العصر، أم أنّنا لم نزل نرزح تحت طائلة "هذا ما وَجَدْنا عليه آباءَنا"؟!.
الأدب الإلكتروني واسع جدًا وله تاريخ علميّ وحركيّ طويل
تشمل محاور المؤتمر المذكور، موضوعاتٍ في غاية الأهمية لصناعة مجتمعات المستقبل عن طريق تكنولوجيا الإبداع الأدبيّ، وتحديدًا "الأدب الإلكتروني"، مثل ما يلي:
- التخيّلات اليوتوبية والديستوبية (البحث في صناعة عوالم التخيّل اليوتوبي، وتخيّل الحياة المخيفة البائسة).
- الأدب الإلكتروني المُستدام (الأدب المتطوّر مع تطوّر الأجيال علمًا وثقافة).
- الإبداع الحوْسبي والذّكاء الاصطناعي التوليدي (محاكاة الآلة الذكية المُبدعة).
- الخيال اللّاخطّي التفاعلي والنص التشعّبي (خيال القارئ المشارك المبدع).
- صناعة النقد والإضاءة الإلكترونية في العلوم الإنسانية الرّقمية (النقد الإلكتروني الإنساني الإبداعي).
- الألعاب الأدبية ومستقبل الخيال التفاعليّ (الإبداع الرقمي لكل فئات المجتمع).
- الواقع المختلط والبديل والمعزّز والافتراضي (تماهي المجتمع الطبيعي والافتراضي).
بالإضافة إلى موضوعاتٍ أخرى، تتعلّق بأصول التعليم والتربية والتدريب، وممارسة الخطاب المُقنِع الذي يستخدم مجموعة الأدوات التقنية النصّية والبصريّة والسمعيّة، والتي تتشكّل من خلالها الأجسادُ والنفسيّاتُ لتُلْقَى في تشكيلاتِ هويّةٍ مُعيّنة، يمكن من خلالها أن تكون إعادة صياغةٍ أو إصلاحًا لهذه الأجساد والنفسيّات. والأمر هنا يعني التشكّلات الفردية والجماعية للمجتمع البشري الطبيعي الذي ينعكسُ فيه وبه المجتمعُ الافتراضيّ...
ما يعنينا الإشكاليات الأساسية للموضوع وما يتعلّق بها من مراحل تطوريّة للأدب الإلكتروني
الحقيقة، أن الأدب الإلكتروني الذي هو مدارُ النظر في هذا الموضوع، واسعٌ جدًّا، ومعقّد، وله تاريخٌ علميٌّ وحركيٌّ طويل، وليس كما قد يظنُّ البعض... يمكنُ إيجازُه في أنّهُ ظَهَرَ في أواخر القرن التاسع عشر مرتبطًا باستخدام الآلةِ الميكانيكيّة في الحوْسبة، مرورًا بتطوّراته اللاحقة المختلفة، خصوصًا في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي. وفي فترة الثمانينيّات والتسعينيّات ارتبط بمصطلَحِه "الأدب الإلكتروني" أو "الأدب الرّقمي"، وغير ذلك من الأسماء: الأدب الافتراضي، التفاعليّ، السايبريّ (cyber)، على الخط (online)... إلخ. ولا شك - والحاسوب منتجٌ غربيّ - أنّ ما يفرزه الحاسوبُ من تطوراتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وإبداعيةٍ غالبًا ما تكون هي الأخرى غربيّة. لذا، بدأ الأدب الإلكتروني في الولايات المتحدة وأوروبا، ثم انتشر في آسيا وبعض دول أفريقيا، وبعض التجربة القليلة في بلداننا العربية.
ما يعنينا هنا، ليس السّرد التاريخي أو الوقوف على أعمالٍ أو أحداثٍ أو تظاهراتٍ بعينها للأدب الإلكتروني، وإنّما الإشكاليات الأساسية للموضوع، والتي نرى أنّها تهمّنا نحن أصحاب الثقافة العربية المُغايرة للثقافة الغربية. بالإضافة إلى ما يتعلّق بهذه الإشكاليّات من مراحل تطوريّة للأدب الإلكتروني؛ وهي ثلاثُ إشكاليّات رئيسية:
1- إشكاليّة المفهوم والخصائص والتنوّع.
2- إشكاليّة التطوير الإبداعي.
3- إشكاليّة المجتمع الافتراضي.
كلُّ هذه الإشكاليّات يفرزها مفهوم "الرّقمية الافتراضية" للإنسان؛ أو "الكيْنونة البشرية الآلية"، وهي التي تتجدّد في صياغة مفهومها، وتتنوّع تباعًا في تطوّرها، وتترقّى علاقاتها التكنو-اجتماعية، بمعنى أنّها بقدر ما يزداد تعقيدُها النظامي (system complexity)، تعكسُ أبعادًا أكثرَ تشابكًا وارتقاءً في الاجتماعيّة الإنسانيّة الكونيّة.
(خاص "عروبة 22")