وسط مخططاتها الشائكة لبلوغ مآربها التوسعية الإقليمية، تولي إسرائيل اهتماما متزايدا لسياسات الهوية، من خلال التدبير الشيطاني لتفكيك الدولة الوطنية العربية، ففي سوريا، تأبى إلا التوظيف السياسي لحوالي 700 ألف درزي، يمثلون 3% من سكانها، ويتمركزون في محافظة السويداء وجنوب دمشق، بينما ظلوا، منذ ولوجهم ربوعها، نهايات القرن السابع عشر، منافحين عن عروبة سوريا واستقلالها، مترفعين عن أية نزعات استقلالية، أو نعرات انفصالية.
أما وقد تأسست على خلفيات دينية إثنية، تستشعر إسرائيل في نجاح مشروع الدولة الوطنية العربية، المتماسكة، الديمقراطية، والمرتكزة على الانتماء القومي والهوية الجامعة، تهديدا وجوديا لها، حيث تفند السردية الصهيونية، التي تروج لخصوصية الدولة العبرية، كما تشكل ندا أخلاقيا واستراتيجيا لها، ومن ثم يعتقد الإسرائيليون أن تمزيق محيطهم إلى "هويات فرعية" يشمل: دروزا، سنة، علويين، أكرادا، شيعة، مسيحيين، وإسماعيليين، سيسمح لدولتهم ألا تبدو استثناءً شاذا دخيلا، بل نموذجا مماثلا "لدولة الطوائف"، وقد تم التأصيل لهذا المخطط في وثائق رسمية وتقارير لمراكز أبحاث، كمثل مركز بيجن ــــ السادات للدراسات الاستراتيجية، ومعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي.
استندت بدورها على الورقة، التي نشرها الصحفي الإسرائيلي، عوديد يينون، عام 1982 بعنوان: "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، تلك التي ترهن بقاء إسرائيل، وضمان هيمنتها على محيطها الإقليمي، بتحول العالم العربي من دول قومية متماسكة، إلى كيانات طائفية وإثنية متصارعة، تصغر إسرائيل ديمغرافيا وجغرافيا، وشأنها شأن الدول الاستعمارية الأوروبية، تنظر إسرائيل إلى الأقليات في الدول العربية، بوصفها تكوينات عرقية وظيفية، أو وكلاء محتملين ضمن مخطط الهيمنة على تلك الدول، لذا تنشد إعادة تشكيل المجال الجيوسياسي المحيط، كما يغدو فيه "الضامن الأمني"، أو "العرّاب الطائفي" الذي يضطلع بدور الموازن بين فرقائه.
ليست محاولات إسرائيل لاستقطاب دروز سوريا، هي الأولى من نوعها على درب توظيف الأقليات، في مشروعها المتعلق بالإضعاف البنيوي لدول الجوار العربي، عبر تفتيتها إلى وحدات إثنية قابلة للضبط، وتحويل الطائفة إلى شريك سياسي وظيفي، يخدم توازنات الهيمنة، فمنذ ستينيات القرن الماضي، عملت على استمالة أكراد العراق، عبر دعمهم عسكريا ولوجيستيا، بوساطة إيرانية، توخيا لاستنزاف العراق ومنعه من التحول إلى قوة إقليمية منافسة. وفي 1982، اجتاحت جنوب لبنان، لطرد منظمة التحرير الفلسطينية، وتدشين تحالف استراتيجي مع الطائفة المارونية.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، رأت إسرائيل في تمدد القوى الكردية المسلحة فرصة نادرة لتفتيت وحدة سوريا، ولجم التغلغل التركي فيها، عبر دعم قيام كيان كردى مستقل، وعقب سقوط نظام الأسد نهاية العام 2024، انبرت في تلبية مناشدات بعض أفراد الطائفة العلوية من أجل حمايتهم مما وصفوه بالاضطهاد والتهديدات التي تلاحقهم، ولم تتورع إسرائيل كذلك، عن توظيف خطاب حماية المسيحيين في المنطقة، عبر تغذية مزاعم الغرب بشأن الاضطهاد الديني للأقليات في الشرق الأوسط. في الأثناء، انتعشت استراتيجية "تحالف الأقليات"، التي تتبنى سلسلة من المبادرات الميدانية، السياسية والإنسانية، إزاء التكوينات العرقية في سوريا، لتأمين السيطرة والتوازن، في مواجهة، "الأغلبية السنية ذات التوجهات الإسلاموية" وهكذا، تم استدعاء سردية الاستعمار الأوروبى، الذي بسط هيمنته على العالم العربي تحت شعار "المسألة الشرقية"، عبر فرض "الحماية" على الأقليات في المشرق العربى، البلقان وشمال إفريقيا.
منذ قرابة عقدين، اعتمدت إسرائيل استراتيجية الغارات الجوية حيال سوريا، بداية من استهداف قوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله، مرورًا بتقويض الأصول العسكرية الإيرانية، وصولا إلى القصف "التحذيري" الذي طال القصر الرئاسى في دمشق، مطلع الشهر الحالي على خلفية التوتر بين الأمن السوري وفصائل درزية في جرمانا، أشرفية، صحنايا، والسويداء. وفي 23 فبراير الماضي، حدد نتنياهو سياسة حكومته إزاء سوريا، متوسلا: تدمير قدرات عسكرية سورية، يمكن للحكومة الجديدة استخدامها لمهاجمتها، تقسيم سوريا، لجم النفوذ التركي، ومواجهة المتطرفين، ومن ثم، أعلن رفض إسرائيل أي وجود عسكري سوري بجنوب دمشق وغرب طريق درعا ـــــ دمشق، على بعد نحو 85 كلم من الجولان، لتبقى تلك المنطقة منزوعة السلاح، حتى لا يتكرر فى الجولان سيناريو "طوفان الأقصى" عام 2023.
كما أكد عدم السماح بأى تهديد للدروز جنوب سوريا، وعقب اشتباكات طائفية بين الدروز وجهات سورية، شنَّت المقاتلات الإسرائيلية سلسلةً من الغارات الجوية، استبقتها بواحدة استهدفت مجموعة متطرفة بمحيط صحنايا، كانت تخطط لمهاجمة مواقع درزية بموازاة ذلك، وزَّع جيش الاحتلال مساعدات إنسانية وغذائية في السويداء، وفتح الحدود أمام المصابين الدروز لتلقي العلاج بالمستشفيات الإسرائيلية.
في غضون ذلك، اقترحت دوائر إسرائيلية استدعاء نموذج "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة أنطوان لحد الذي سمحت له إسرائيل بدخولها عام 2000، بحيث تستقبل الدروز السوريين الراغبين في العيش بإسرائيل، فيما تقترح دوائر أخرى ضم بلدات جنوب سوريا إلى السيادة الإسرائيلية، ومساواة دروزها، بدروز الجولان، الكرمل، الجليل، ودروز فلسطينيى 48، وهناك من يطالب بتنفيذ مشروع السياسي الإسرائيلي، يغئال آلون، لجهة إقامة جمهورية درزية في جنوب سوريا والجولان.
ثمة مخاوف إسرائيلية من انقلاب السحر على الساحر، فقد تفضي المقامرة بسياسات الهوية إلى إعاقة الوحدة الدرزية بالإقليم، تأجيج الصراعات داخل الطائفة الدرزية، وبينها وبين سائر التكوينات العرقية، بما يهدد النسيج السوري برمته، فبموازاة تمسك دروز سوريا بسلاحهم لحماية أنفسهم من بطش الميليشيات المتطرفة، طفقت فصائل أخرى تطلب وضعا مماثلا، التماسا للحماية من أي عدوان إسرائيلي محتمل، بينما لا يزال الجيش السوري الجديد قيد التأسيس.
ومن غير المستبعد أن يتمخض الإصرار الإسرائيلي على استغلال الورقة الدرزية في سوريا، عن إغراء إيران للاستفادة من حالة الفوضى التي ستخلفها الهجمات الإسرائيلية، فمن شأن إضعاف المنظومة الأمنية السورية، منحها فرصة لإعادة التموضع العسكري بذريعة مقاومة الاحتلال، فضلا عن تحفيز فلول النظام البائد على استهداف أمن واستقرار البلاد، علاوة على استنفار "داعش" لتقوية نفوذه واستعادة نشاطه، خصوصا بعد تمكنه، مؤخرا من زيادة هجماته، ستصطدم محاولة إسرائيل تعزيز النفوذ الروسي في سوريا للجم التغلغل التركي، برفض أطراف دولية ترى في سقوط نظام الأسد فرصة ذهبية لإنهاء ذلك النفوذ، حيث هرعت غالبيتها لدعم الحكومة السورية، وإيصاد الأبواب أمام التدخلات الروسية والإيرانية.
تفتقد المزاعم الإسرائيلية بشأن حماية الدروز، إجماع دروز سوريا وإسرائيل على السواء، ففي سويداء سوريا، وردا على دعوة الشيخ حكمت الهاجري، إلى تدخل دولي لحماية طائفته، عقد وجهاء الطائفة اجتماعًا أعلنوا فيه تصديهم لأية محاولة لتقسيم بلادهم، ورفضهم لأي تدخل خارجي، مهما كانت ذرائعه، أما داخل إسرائيل، فيؤيد الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، موفق طريف، وشريحة واسعة من الدروز، بينهم أعضاء بالكنيست، جنود وضباط في الجيش، التدخل العسكري الإسرائيلي لحماية دروز سوريا.
ولوحت الطائفة، التى تعتبر نظراءهم السوريين امتدادا مجتمعيا وثقافيا لهم، بتشكيل فرقة خاصة لتنفيذ المهمة، إذا تنصلت منها إسرائيل، وشهدت مناطق عدة في إسرائيل تظاهرات للدروز، احتجاجا على الاعتداءات، التي يتعرض لها دروز سوريا، ودعوا الحكومة والجيش الإسرائيليين إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحمايتهم، وبناء عليه، تعتبر إسرائيل خططها لحماية دروز سوريا، استجابة لـ"تحالف الدم" الذي يرتب "التزامات أخلاقية" حيال مطالبات 150 ألف درزى إسرائيلى، يخدم الكثير منهم بالجيش، ويشغل بعضهم مناصب رفيعة، في المقابل، دعت أصوات درزية إسرائيلية، حكومة الاحتلال إلى، ترك سوريا وشأنها، والتوجه صوب إنهاء التمييز والاضطهاد اللذين يكابدهما دروز، وفلسطينيو 48.
بغض النظر عما تمثله سياسات الهوية الإسرائيلية، الرامية إلى تفتيت الدولة الوطنية العربية، وكبح جماح النفوذ التركي المتنامي في جنباتها، من تهديد للاستقرار الإقليمي والسلم الدولي، تتخوف أوساط إسرائيلية من استنفار تلك السياسات، جهاديى سوريا، لاستهداف مواطنيهم الدروز، الذين ستحاصرهم الاتهامات بكونهم طابورا خامسا لحساب إسرائيل، أو أن تزج بجيش الاحتلال إلى أتون مواجهة منهكة مع النظام السوري الجديد، بغير مبرر استراتيجي ملح.
(الشروق المصرية)