الانتخابات وتحدّيات التلاعب والتزييف باستخدام الذّكاء الاصطناعي التوليدي

أُطلِق على العام الماضي (2024) عام الانتخابات التاريخي، إذ شارك مواطنو 80 دولةً على الأقلّ في جميع أنحاء العالم في الانتخابات أو تفاعلوا مع أحداثها أو شاركوا فيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنصّات الرقمية، تحوّلت معها الساحات والفضاءات العمومية الموقعية كما الفضاءات الافتراضية إلى مساحات حروب وصراعات تغالبية رقمية، ضُخَّت فيها الكثير من المعلومات والحقائق، إلى جانب المُحتويات التضليلية والمُزيّفة المُسخّرة لأغراضٍ سياسية، لعب فيها الذّكاء الاصطناعي التوْليدي أيضًا دورًا فاعلًا، حيث انتشرت بكثافةٍ تقنيات مثل: التزييف العميق (Deepfak)، وإنشاء الأخبار الكاذبة (Fake News)، وتقليد الأصوات (Voice Cloning)، وتحريف الوثائق والمستندات (Digital Document Tampering)، وتركيب الصور المفبركة (Fake Images)، وتقنية الصور الصناعية (Synthetic Images)، والصور المولّدة عن طريق الحاسوب (Computer Generated Image-CGIs)، الأمر الذي جعل العالم يدخل في الكثير من الحالات في نوعٍ من التيه المعلوماتي، أو عالم ما بعد الحقيقة، لم يسْلم منه حتّى كبار السياسيين والصحافيين ونجوم الإعلام.

الانتخابات وتحدّيات التلاعب والتزييف باستخدام الذّكاء الاصطناعي التوليدي

معلومٌ أنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، هو فرعٌ من فروع الذّكاء الاصطناعي، ويتميّز عن غيره بكونه لا يكتفي بفهم البيانات فحسب، بل يعمل على إنشاء محتوى جديد ومُولَّد بناءً على المُدخلات (البيانات) التي تمّ تدريبه عليها، سواء في شكل نصوصٍ أو صورٍ أو مقاطع فيديو أو حتى شيفرات برمجيّة، باستخدام الخوارزميات ونماذج التعلّم العميق بخاصّة الشبكات العصبية.

في العام 2024، لعب الاستخدام غير الأخلاقي لمثل هذه التقنيات دورًا بارزًا في التأثير في مسار الانتخابات حول العالم ــ بحسب تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" الخاص بتصنيف "حرية الصحافة" 2024 ــ وانتهى الأمر إلى وصول عديدٍ من الشخصيات غير الديموقراطية، والسالبة لحرّية الصحافة والمُعادية للتعدّدية الإعلامية إلى سدّة الحكم، ومقاعد البرلمان والمجالس التمثيلية، من ذلك مثلًا التزييف الصوتي الذي طال الصحافية مونيكا تودوفا خلال الانتخابات التشريعية في سلوفاكيا، وهي واحدة من أولى حالات التزييف المعلوماتي المُوثِّقة لاعتداءٍ على صحافيةٍ بهدف التأثير على سير عملية انتخابية ديموقراطية.

العام 2024 كان الأكثر دموية وأدّى إلى مقتل 104 صحافيين حول العالم أكثر من نصفهم في غزّة

رصد التقرير كذلك، مجموعةً من الحالات المماثلة في كلّ من الأرجنتين وبيلاروسيا وجورجيا وأذربيجان ودولٍ أخرى، كما رتّب منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط ضمن أخطر الدول التي يمكن ممارسة مهنة الصحافة فيها، تليها منطقة آسيا والمحيط الهادئ حيث تختنق الصحافة تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية.

أمّا في أفريقيا، فعلى الرَّغم من أنّ حرّية الصحافة توجد في وضعٍ خطيرٍ للغاية بأقلّ من 10% من الدول السابقة، إلا أنّ الوضع كان "صعبًا" في نصف بلدانها تقريبًا، مثل الكونغو الديموقراطية والنيجر وبوركينا فاسو ومالي. أمّا فيما يخصّ الأميركتين (الشمالية والجنوبية)، فقد أشار التقرير إلى استحالة تغطية الصحافيين والمؤثّرين لقضايا مثل الجريمة المنظّمة والفساد والبيئة، خوفًا من الانتقام والمُتابعات، حيث تراجعت الولايات المتحدة الأميركية 10 مراكز في مؤشّر حرّية الصحافة، كما اعتُبر وضع حرّية الصحافة في أميركا اللاتينية "إشكاليًا".

وكان من مفاجآت التصنيف العالمي أن تركت الصين وفيتنام وكوريا الشمالية ثلاثي المؤخرة، لتحلّ محلها دول شهدت انخفاضًا مهولًا في مؤشر التقييم السياسي، وهي أفغانستان وسوريا وإريتريا التي احتلّت المركز الأخير في التصنيف العام، بحيث شهدت وسائل الإعلام في هذه المناطق فوضى عارمة، وسُجلت فيها أرقام قياسية من الصحافيين المحتجزين أو المفقودين أو الرهائن.

أمّا "الاتحاد الدولي للصحافيين" - ومقرّه في بروكسل - فقد اعتبر أنّ العام 2024 كان الأكثر دمويةً في تاريخ النزاعات الحديثة، وأدّى إلى مقتل 104 صحافيين حول العالم، أكثر من نصفهم في غزّة.

واقع عالمي جديد تغيب فيه المعايير الإنسانية التعاقدية وتُطمس الحقائق العقلانية

تُظهر هذه الأرقام والإحصاءات، أنّ عام 2024 كان وبالًا على مؤشر الديموقراطية وإنفاذ القانون والشفافية حول العالم، إذ ظهر تراجع مقلق في قيمة الحقيقة كفضيلةٍ مُثلى، في مقابل الزيادة والإفراط في استعمال القوة كحقيقةٍ موازيةٍ، وتكميم الأفواه باستعمال العنف، وبناء واقع عالمي جديد تغيب فيه المعايير الإنسانية التعاقدية وتُطمس الحقائق العقلانية، باستدعاء الآراء الشخصية (خطابات الكثير من السياسيين حول العالم تُحيل إلى ذلك)، كما تُزيّف الحقائق الموضوعية (بما هي مطابقة الفكر لذاته أو للواقع)، بتسهيلٍ من الذّكاء الاصطناعي التوليدي (بما هو مطابقة الفكر لمصالحه وأهدافه)، الأمر الذي قد يقوّض في المستقبل القريب، كلّ القيم العليا التي بُنيت عليها الحداثة الغربية، ويُطلق العنان لشرور عصور الظلام بالعودة من جديد إلى العالم: عالم ما بعد الحقيقة! وما بعد الواقع! وعالم ما بعد السلم والسلام!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن