في منتصف التسعينيات من القرن 20، أعلن طه عبد الرحمن عن مشروعه الفلسفي "فقه الفلسفة"، وكان هاجسه الأول هو الإبداع الفلسفي، نظرًا لغلبة التقليد (حسب عبارة طه) على الفضاء الفلسفي العربي، وليس "فقه الفلسفة" كلّه إلا إجابة عن السؤال: كيف نحقق الإبداع الفلسفي؟ إذن فقه الفلسفة ليس الفلسفة، بل الطريق الذي يوصل إلى الإبداع الفلسفي، هو علم الفلسفة أو فلسفة الفلسفة، أو "علم أصول الفلسفة" أو "علم النظر في الفلسفة".
موضوعه هو: "الظواهر الفلسفية بوصفها وقائع واردة في لغات خاصة، وناشئة في أوساط محدّدة، وحادثة في أزمان معيّنة، وحاملة لمضامين أثّرت فيها عوامل مادية ومعنوية مختلفة". ومنهج فقه الفلسفة يتصف بالتكامل والتداخل ويستمدّ عناصره من آفاق معرفية متنوعة؛ لأنه ينظر في صيغ أقوال الفيلسوف ومضامينها، كما ينظر في أفعال الفيلسوف. وقد أعلن طه في البداية أنّ فقه الفلسفة سيتناول أربعة أقسام يقتضيها النظر في الخطاب الفلسفي هي:
1- الترجمة والفلسفة، أو قل فقه الترجمة الفلسفية
2- العبارة الفلسفية، أو قل فقه التعبير الفلسفي
3- المضمون الفلسفي، أو قل فقه التفكير الفلسفي
4- السيرة الفلسفية، أو قل فقه السيرة الفلسفية.
صدر الجزء الأول من فقه الفلسفة تحت عنوان الفلسفة والترجمة، ولما صدر الجزء الثاني جاء تحت عنوان القول الفلسفي: كتاب المفهوم والتأثيل، بدلًا من العبارة الفلسفية، وبرّر طه ذلك التعديل في العنوان بما استجد من حاجته إلى استعمال مفهوم العبارة في معنى أخصّ وهو المقابل للإشارة، وذلك لأن القول الفلسفي تتساوى عبارته وإشارته، وتتوسّل عبارته بإشارته، وذلك ما اقتضى منه إعادة النظر في عناوين أجزاء فقه الفلسفة، بل زاد جزءًا خامسًا، فأصبحت:
- الفلسفة والترجمة
- القول الفلسفي: كتاب المفهوم والتأثيل
- القول الفلسفي: كتاب التعريف والتمثيل
- القول الفلسفي: كتاب الدليل والتخييل
- السيرة الفلسفية والتأويل.
أصدر طه الجزء الأول 1995، والجزء الثاني 1998. وقد اكتمل الجزء الثالث القول الفلسفي: كتاب التعريف والتمثيل، ويتوقع أن يصدر قريبًا.
بعد مضيّ 15 سنة على ظهور الجزء الأول من فقه الفلسفة، أصدر طه 2011 كتابه روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، مؤذنًا بميلاد توجّه فكري جديد أطلق عليه الفلسفة الائتمانية، وكرّس لهذا التوجّه أعماله اللاحقة مثل: بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، شرود ما بعد الدهرانية، النقد الائتماني للخروج من الأخلاق، دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني 3 أجزاء، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، ثغور المرابطة مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية جزءين، التأسيس الائتماني لعلم المقاصد.
والائتمانية هي محاولة لتأسيس فلسفة إسلامية "خالصة" تنبني على العقل المؤيد، وتسمد عقلانية التأييد من الأصول الإسلامية، وتتضمن ثلاث فلسفات هي: فلسفة الأمانة، وفلسفة الشهادة، وفلسفة التزكية. وتختلف الائتمانية عن الفلسفة الإسلامية التقليدية ومن باب أولى الفلسفة "العلمانية" الغربية، التي تتوسّل بـالعقل المجرّد. لأنّ الذين يوصفون بفلاسفة الإسلام (حسب طه) لم يخرجوا عن مجرى الفلسفة اليونانية القائمة على العقلانية المجرّدة. ويتّضح الفرق أكثر بين الفلسفة التقليدية والفلسفة الائتمانية عند المقارنة بين مبادئهما: فالأولى تقوم على مبدأ الهوية والثالث المرفوع وعدم التناقض، في المقابل تقوم الائتمانية على مبدأ الشهادة ومبدأ الأمانة ومبدأ التزكية.
سؤال السيرة الفلسفية
بين عامي 2000 - 2006 اشتغل طه على سؤال الأخلاق والحقّ في الاختلاف وروح الحداثة، فكان من نتيجة ذلك الاشتغال صدور أعمال مهمّة لا يمكن أن يقرأ طه دونها، وهي: سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، وروح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية.
توقف طه عبد الرحمن عن الكتابة لمدة 5 سنوات، الظاهر أنها كانت تحضيرًا لمشغله الكبير الفلسفة الائتمانية والتي استغرقت كلّ كتبه منذ 2011 حتى الآن، باستثناء كتاب: سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، الذي يعتبر تكميلًا لكتاب سؤال الأخلاق.
قبل العودة للأسئلة أعلاه نستعرض أولًا الكتاب. صدر الكتاب عن مركز نهوض للبحوث والدراسات وجاء في 510 صفحة. يبدأ الكتاب بتمهيد يبين كيف يكون سؤال السيرة الفلسفية هو سؤال الفلسفة؟
وجاء الفصل الأول تحت عنوان: مفهوم السيرة الفلسفية، وناقش السيرة الفلسفية والإبداع الفكري، وخصائص السيرة الفلسفية الحية، وصلة السيرة الفلسفية بالحكمة، مبيّنًا أنّ الحكمة أعلى رتبة من الفلسفة، ثم توقف عند البُعد الإصلاحي للفلسفة، وختم بالأفق التوحيدي للفلسفة.
وكان الفصل الثاني تحت عنوان: أركان السيرة الفلسفية، متخذًا سقراط نموذجًا. وتناول تحته: سقراط أول فيلسوف زمانيًا ومعرفيًا، مبيّنًا الوعي الائتماني لسقراط، ثم ناقش أركان السيرة الفلسفية، وختم بمفهوم السعادة.
وتناول الفصل الثالث: التحريف الأول لمفهوم السيرة الفلسفية، متخذًا التشبّه بالإله بدل التشبّه بالنبي مثالًا، من خلال أفلاطون وأبو بكر الرازي. فشرح مفهوم التشبّه بالإله عند أفلاطون، ومفهوم التشبّه بالإله عند الرازي، وختم ببيان السيرة الفلسفية الباطلة.
واستطرد في الفصل الرابع: التحريف الثاني للسيرة الفلسفية، مناقشًا التنَظَّر بدل التفكّر عند أرسطو وأبي بكر بن باجة. فنقد مفهوم التنَظَّر عند أرسطو، وناقش مفهوم التنَظَّر عند ابن باجة، وختم بشرح وجوه التعارض بين التنَظَّر والتصوّف. وواصل في الفصل الخامس نقاش التحريف الثالث للسيرة الفلسفية من خلال التخلّق الغريزي بدل التخلّق الفطري، عند نيتشه وعبد الرحمن بدوي.
وجاء الفصل السادس تحت عنوان ملفت هو: الأصل النبوي للفلسفة، متخذًا إبراهيم عليه السلام نموذجًا. فأكد أنّ السيرة الحيّة أصل الإبداع الفلسفي، وبيّن أنّ إبراهيم أحقّ الأنبياء بأن يتشبّه به الفيلسوف، كما فعل سقراط.
وقبل الخاتمة جاء المؤلف بـملحق يؤكد على تهافت نظرية النبوة عند فلاسفة الإسلام، ثم ختم بعرض شروط إمكان قيام فلسفة إسلامية حقة.
من البداية سيجد القارئ أنّ عنوان الكتاب يختلف عن الذي أعلن عنه طه في فقه الفلسفة وهو: السيرة الفلسفية والتأويل، في حين أنّ عنوان الكتاب الجديد هو: سؤال السيرة الفلسفية، كما سيلاحظ العنوان الفرعي: بحث في حقيقة التفلسف الائتمانية. وهذا ما يؤكد مشروعية السؤال أعلاه.
ودون الخوض في تفاصيل لا يتّسع لها المقام، فإنّ كتاب سؤال السيرة الفلسفية وكما يظهر من العرض الموجز الذي تقدّم يصعب تصنيفه بصفة قاطعة، إذ نجد فيه من كل إنتاج طه عبد الرحمن وإن بدرجات متفاوتة، ولكن من يقرأ هذا الكتاب سيحتاج بصفة خاصة أن يتذكّر فقه الفلسفة وأن يذاكر الفلسفة الائتمانية، وأن يعود إلى كتاب العمل الديني وتجديد العقل. والثابت الأساسي القديم الجديد الذي لم يختلف في كل أعمال طه ومنها سؤال السيرة الفلسفية هو هاجس الإبداع والتجديد والحق في الاختلاف الفلسفي والفكري. لذلك نجد طه يفتتح مؤلفه الجديد مستفسرًا متعجبًا: ألم يأن لنا نحن المسلمين أن نبدع في مجال الفلسفة كما أبدعنا في مجال العلم!
إذا أردنا أن نبدع فلسفيًا لا بدّ أن نتجاوز مرحلة الانشغال بالفلسفة كعلم والبحث فيها كفنّ
ولتحقيق الإبداع المنشود، يشترط طه أن نتحرّر من الجمود على الصيغ الفلسفية المنقولة، وأن نفرّق بين "علماء الفلسفة" والفلاسفة. فعالم الفلسفة يبحث في المناهج والمفاهيم والمعايير، والفيلسوف يبحث في القيم والآثار والصيغ، وإذا أردنا أن نبدع فلسفيًا لا بدّ أن نتجاوز مرحلة الانشغال بالفلسفة كعلم والبحث فيها كفنّ.
و"أن نكون لأنفسنا مفاهيم وتصورات فكرية نستنبطها من عريق ثقافتنا، ونشتغل عليها بما أوتينا من قدرات عقلية ومعنوية، تدليلًا عليها وتطويرًا لها واستنتاجًا منها وتوظيفًا لها، فإن وافقت... ما عند الآخرين فبها ونعمت؛ وإن لم توافقه، فإنما هي إثراء للمجال الفلسفي".
وما يمكن أن نقوله في الأخير عن كتاب سؤال السيرة الفلسفية أنه ينتسب من الناحية التاريخية إلى مشروع فقه الفلسفة، ولكنه ينتمي من الناحية الواقعية إلى مشروع الفلسفة الائتمانية. وبذلك يمكن أن نقول إنّ طه جدل فقه الفلسفة والفلسفة الائتمانية، والكتاب الذي بين أيدينا مثال على ذلك.