الحقيقة أنّ الدهشة من قرارات ترامب الأخيرة بشأن سوريا تكشف عن نظرةٍ غير متعمّقةٍ للسياسة الأميركية تجاه تلك التنظيمات، فالأصل في السياسة الأميركية المُعلنة تجاهها هو العداء لها ومحاربتها، ولكنّنا نعلم بطبيعة الحال الطابع البراغماتي أي العملي للسياسة الخارجية الأميركية، وهو طابع لا تشذّ عنه سياستها تجاه تلك التنظيمات كما يشهد بذلك سجل طويل من التعامل معها وتوظيفها، بل والتفاهم معها كلّما اقتضت المصلحة الأميركية ذلك.
وسوف يعتمد التحليل التالي على الوقائع المُوَثَّقة، لأنّ هناك كثيرًا من الروايات الرّائجة في الاتجاه نفسه، لكنّ الدليل القاطع عليها غير أكيد، وسوف أعرض فيما يلي أربعة أمثلة مهمّة ومُوثّقة أعتقد أنّها كافية لإثبات المقولة التي ينطوي عليها هذا التحليل.
لم يوجد في السياسة الأميركية ما يمنع التعامل مع التنظيمات الجهادية المسلحة طالما أنّ ذلك يحقق المصلحة الأميركية
لعلّ أوّل واقعة موثّقة بالنسبة لي تدلّ على براغماتية التعامل الأميركي مع التنظيمات الإرهابية وتوظيفها لخدمة أهدافٍ مُشتركةٍ تمثّلت في تقاطع المصلحة الأميركية في هزيمة التدخل السوفياتي في أفغانستان في نهاية سبعينيّات القرن الماضي لحماية النظام الشيوعي آنذاك كجزءٍ من معارك الحرب الباردة، مع مصلحة "تنظيم القاعدة" في "محاربة الكفر والإلحاد" الذي جسّده الاتحاد السوفياتي من وجهة نظرهم. وهذا التحالف ثابت بتصريحاتٍ مسجّلةٍ مرئيةٍ ومسموعةٍ من أسامة بن لادن مؤسّس "تنظيم القاعدة" وزعيمه آنذاك، وكذلك اعترافات مصادر في المخابرات المركزية الأميركية، وقد كان وتحقّقت المصلحة، ولم تخرج القوات السوفياتية من أفغانستان فحسب بعد صعود ميخائيل غورباتشوف إلى قمّة السلطة السوفياتية في منتصف الثمانينيّات، بل وتفكّك الاتحاد السوفياتي ذاته في مطلع العقد الأخير من القرن.
ويتّصل المثال الثاني بالأول، فقد قام "تنظيم القاعدة" وفقًا للرواية الرسمية الأميركية بتنفيذ عملية 11 سبتمبر/أيلول 2001، أي أنّ السحر قد انقلب على الساحر، فجاء الردّ الأميركي بغزو أفغانستان وإسقاط نظام حكم "طالبان" باعتباره متستّرًا على "تنظيم القاعدة"، غير أنّ حركة "طالبان" وإن أُزيحت عن السلطة لكنها بقيت تنظيمًا قاتل القوات الأميركية الغازية لمدة قاربت العقديْن، وفي ظلّ ولاية ترامب الأولى تفاوض معها بعد أن فشلت القوات الأميركية في القضاء عليها، وتمّ توقيع الاتفاق الشهير في فبراير/شباط 2020 الذي يمكن وصفه بأنّه اتفاق تسليم أفغانستان لـ"طالبان"، ومن لديه أدنى شك في هذا التوصيف عليه أن يعود إلى نصّ الاتفاق ليكتشف ما هو أعجب من ذلك.
وخلاصة المثاليْن الأول والثاني أنّه من المنظور البراغماتي لم يوجد في السياسة الأميركية تجاه التنظيمات الجهادية المُسلّحة ما يمنع من التعامل معها، وكذلك التفاهم بشأن قضايا معيّنة طالما أنّ ذلك يحقّق المصلحة الوطنية الأميركية.
حركة "حماس" تنظيم إرهابي من وجهة النظر الأميركية وانخرط ترامب في مفاوضات مباشرة معها
ثم نأتي للمثاليْن الثالث والرابع، فحركة "حماس" تنظيم إرهابي بامتياز من وجهة النظر الأميركية، ومع ذلك فقد اضطُرّت إدارة ترامب إلى التعامل معها بعد أن صمدت في القتال، ونجحت في إخفاء أسراها عن الإسرائيليين لمدةٍ زادت عن السنة ونصف السنة، وهكذا انخرط ترامب في مفاوضاتٍ مباشرةٍ معها أفضت إلى نتائج محدّدة.
أما المثال الرابع والأخير فقد يكون الأعجب، لأنه يتعلق بـ"الحوثيين" أصحاب السجل البارز في السياسة الأميركية، فقد صنّفهم ترامب في ولايته الأولى تنظيمًا إرهابيًا، ثم جاء جو بايدن فألغى هذا التصنيف بدعاوى إنسانية، ليعود ترامب في ولايته الحالية، ومع أيامه الأولى في البيت الأبيض، إلى إعادة تصنيفهم كتنظيمٍ إرهابيّ، ونتيجة ضجره من انغماسهم في عملية إسناد المقاومة في غزّة قرر توجيه ضربات قاتلة لهم بغرض الخلاص منهم، غير أنّهم صمدوا ولم يستطع ترامب القضاء عليهم، فإذا به يفاجئ المنطقة والعالم بقرار وقف إطلاق النار معهم باتفاقٍ يستثني إسرائيل، بمعنى أنّ اتفاقه مع "الحوثيين" احتفظ لهم بالحقّ في توجيه ضرباتهم لإسرائيل، وهو ما قاموا به بالفعل وما زالوا، والخلاصة أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تنخرط فيها السياسة الأميركية في تفاهماتٍ واتصالاتٍ مع تنظيماتٍ ذات خلفيةٍ إرهابية، فلِم الدهشة إذن؟.
(خاص "عروبة 22")