رغم كل المحاولات والجهود التي بذلها الوسطاء على مدار الأيام الماضية من اجل ابرام صفقة لوقف اطلاق النار في غزة، الا انها مُنيت جميعها بالفشل نتيجة تمسك كل طرف بشروطه والتمترس خلف مطالبه. فاسرائيل، بشخص رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تسعى لهدنة مؤقتة تطلق خلالها سراح أكبر عدد من الرهائن "الأحياء" على أن تستأنف بعدها الحرب على القطاع لانها تصرّ على توسيع العملية العسكرية والتهديد باحتلال أراضٍ جديدة. بينما، في المقابل، تتمسك حركة "حماس" بمطلبها الداعي الى انهاء القتال وادخال المساعدات والبدء بعملية اعادة الاعمار لرفض كل مخططات التهجير التي وضعتها تل ابيب اليوم في سلّم الاولويات.
وأمام هذه "الخلافات الجذرية" يجد سكان القطاع أنفسهم في سباق مع الوقت، فالجوع يستفحل والعطش يزداد والنزوح بحثًا عن "منطقة آمنة" ينعدم بينما اسرائيل تصعّد بشكل هيستيري عملياتها العسكرية حاصدة أرواح المزيد من الشهداء والجرحى، الذين تحرمهم أيضًا من العلاج والطبابة مع استهداف المستشفيات بشكل مباشر كما مخازن الدواء في محاولة لاعدام اي فرصة للحياة في القطاع المنكوب. ومع أن تل أبيب أعلنت موافقتها على إدخال الإمدادات الانسانية بشكل "مؤقت" الا انه حتى اللحظة تتضارب المعلومات بين دخول عدد محدود جدًا من الشاحنات وبين تصريحات للأمم المتحدة جاهرت فيها بعدم توزيع أي مساعدات حتى الآن.
إلا أن ما يجري من تصعيد ميداني ضمن ما اطلقت عليه اسرائيل عملية "مركبات جدعون" لاقى تنديدًا عربيًا ودوليًا، خاصة من قبل الدول الاوروبية، التي قررت أن ترفع سقف المواجهة عاليًا وتهدد نتنياهو. ففي خطوة متقدمة وغير مسبوقة، أقدمت الحكومة البريطانية على اتخاذ سلسلة من الإجراءات العقابية بحق الحكومة الإسرائيلية للضغط عليها لوقف حرب الابادة. فيما صدّق البرلمان الإسباني على النظر في مقترح حظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل. وقبل هذا القرار، دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الى استبعاد إسرائيل من الفعاليات الثقافية الدولية بسبب عدوانها المستمر على قطاع غزة، مثلما جرى مع روسيا بسبب حربها على أوكرانيا.
بدورها، دعت هولندا، إلى جانب فرنسا ودول أخرى، إلى فرض عقوبات جديدة من جانب الاتحاد الأوروبي على المستوطنين الإسرائيليين ومنظماتهم في الضفة الغربية نتيجة ما يقومون به تجاوزات وممارسات عنيفة. في حين دعت باريس على لسان وزير خارجيتها جان نويل بارو الى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وتشكل هذه المواقف الاوروبية بداية تحول يمكن التعويل عليه في حال ترافق مع ضغوط أميركية جدية لوقف الحرب خاصة بعد المعلومات الاعلامية التي تحدثت عن رغبة الرئيس دونالد ترامب بإنهاء القتال بعد تأثره بالمشاهد الواردة من القطاع. كما يبرز هنا دور أخر يتجلى بالدول العربية، التي عليها تلقف هذه المستجدات والسعي بما تملكه من حضور وحيثية الى مضاعفة الجهود الآيلة نحو حل هذه الازمة التي تهدد الاستقرار في المنطقة برمتها.
أما على الضفة الاسرائيلية، فقد اعتبر تقرير مفصل لصحفية "يديعوت أحرونوت" أن تل أبيب قد وصلت إلى أدنى مستوى في مكانتها الدولية، واصفة اياها بـ"الدولة المنبوذة" و"المعزولة بالكامل". كما حذرت من التداعيات الخطيرة للخطوات الاوروبية على الوضع الاقتصادي برمته. يُشار الى أن الاتحاد الأوروبي يُعّد الشريك التجاري الأول لإسرائيل، وبلغت المبادلات التجارية بين الطرفين 42.6 مليار يورو عام 2024. هذا ونقلت الصحيفة الاسرائيلية عن مصدر في وزارة الخارجية قوله إن "تل أبيب تواجه تسونامي حقيقيًا سيزداد سوءًا" مع قادم الأيام. ويتزامن ذلك مع التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها رئيس "حزب الديمقراطيين" الإسرائيلي المعارض يائير غولان حيث قال "الدولة العاقلة لا تشن حربًا على المدنيين الفلسطينيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تنتهج سياسة تهجير السكان".
الانتقادات العالية اللهجة لسياسات نتنياهو والتي تترافق مع التصعيد من جهة أهالي الاسرى المحتجزين لدى "حماس" لم تلق بعد اذانًا صاغية رغم مرور اكثر من 600 يوم على الحرب وعدم تحقيق اسرائيل اي هدف من الاهداف التي تجاهر بها سوى توسيع رقعة الاحتلال والتسبب بالمزيد من الخسائر البشرية، التي ترقى الى مستوى الابادة الجماعية والتطهير العرقي، دون اغفال فشلها الذريع في تحرير ولو رهينة واحدة من رهائنها. الى ذلك، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، أمس، أن الولايات المتحدة أجرت اتصالات مع دول عدة لحضّها على استقبال فلسطينيين قرّروا "طوعًا" الخروج من غزة، نافيًا ان تكون ليبيا ضمن الدول التي تم التواصل معها في هذا الاطار. وكانت معلومات راجت مؤخرًا اشارت الى سعي واشنطن لنقل مليون فلسطيني بشكل دائم الى ليبيا مقابل الافراج عن "الدولارات المحتجزة لديها".
المأساوية في المشهد الغزاوي برمته يقابلها تصريحات اميركية "حاضنة" للادارة السورية الجديدة وذلك بعد الخطوة الاستثنائية التي تمثلت برفع العقوبات بطلب من السعودية وتركيا. وضمن المستجدات، دعا وزير الخارجية الاميركي الكونغرس إلى إلغاء "قانون قيصر"، والذي يفرض عقوبات صارمة على سوريا، مشددًا على أهمية "فتح المجال أمام دول المنطقة لمساعدة الحكومة الانتقالية هناك". وتأتي الخطوات الاميركية "المشجعة" على صعيد دفع الاوضاع السورية قدمًا مع اعلان الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الاوروبي كايا كالاس عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، مع ابقائها على حظر بيع الأسلحة والمعدات التي يمكن استخدامها لقمع المدنيين.
وتنظر دمشق بعين التفاؤل لهذه القرارات حيث سارع وزير خارجيتها أسعد الشيباني الى توجيه شكر للاتحاد الاوروبي، معتبرًا أن "هذا القرار يعزز الأمن والاستقرار والازدهار في سوريا". وتحاول الادارة السورية الجديدة منذ وصولها الى سدة الحكم والاطاحة بنظام بشار الاسد الى تحسين علاقاتها بمحيطها وارسال رسائل طمأنة للداخل والخارج وتدأب لوضع حدّ للتفلت الامني واستغلال بعض الاطراف الاحداث الجارية لاثارة الفوضى، خاصة انه لا يمر يوم دون ان تواجه دمشق حدثًا أمنيًا تمثل، أمس الثلاثاء، بتعرض قاعدة "حميميم" الروسية بالقرب من اللاذقية إلى هجوم مسلح أسفر عن وقوع قتلى بين الجنود الروس، دون أن يصدر عن موسكو أو الجهات الرسمية السورية أي توضيح حول ذلك.
ومن سوريا الى ايران، حيث جولة المفاوضات الايرانية - الاميركية تشهد المزيد من التأزم وغياب الرؤى المشتركة، رغم دفع البلدين باتجاه عقد اتفاق يتلاءم مع مصالحهما. ويتجلى الخلاف الرئيسي حول رفض واشنطن السماح بأي شكل من أشكال تخصيب اليورانيوم، فيما تعتبر ايران ان ذلك ضمن "خطوطها الحمر" غير القابلة للنقاش، كما جاء على لسان المرشد علي خامنئي الذي قال: "على الطرف الأميركي ألا يقول هراء...قولهم إننا لن نسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم، هذه وقاحة زائدة. لا ننتظر إذنَ هذا أو ذاك، نتبع سياستنا الخاصة". الموقف نفسه عكسه وزير الخارجية عباس عراقجي الذي شدّد على أن "قضية التخصيب، ليست مطروحة للنقاش أصلًا".
في غضون ذلك، لا تزال اسرائيل تسعى وراء الحروب العسكرية رغم تفضيل واشنطن الحلول الديبلوماسية مع ايران والسعي لثني تل أبيب عن مخططاتها. الا ان شبكة "سي.إن.إن" الإخبارية نقلت عن مسؤولين أميركيين مُطلعين إشارتهم الى وجود معلومات استخباراتية جديدة تشير إلى أن إسرائيل تُجهز لضرب منشآت نووية إيرانية، معتبرين ان "تنفيذ مثل هذه الضربة سيكون خروجًا صارخًا عن نهج ترامب، وقد يؤدي إلى إشعال صراع أوسع نطاقًا في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تحاول الولايات المتحدة تفاديه منذ أن أشعلت حرب غزة التوترات الإقليمية". وبانتظار ما ستحمله جولة المفاوضات الجديدة من معطيات نحو حلحلة العقد أو تأزم الاوضاع اكثر حتى يُبنى على الشيء مقتضاه.
على المقلب اللبناني، يبدأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم زيارة تستمر 3 أيام عنوانها المركزي مواكبة التطورات الحاصلة في المنطقة، ولاسيما مع وجود نية لبنانية لحصر السلاح بيد الدولة وبسط سيطرتها الكاملة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. ويأتي ذلك في وقت يحاول لبنان تعزيز سيطرة الجيش في مناطق الجنوب ويسعى لايجاد حل لسلاح "حزب الله" وذلك عبر محاولة الرئيس جوزاف عون اعتماد الحوار البنّاء لمنع دخول البلاد في توترات سياسية وامنية. وفي هذا السياق، نقلت صحيفة "الجريدة" الكويتية عن مصادر تأكيدها بأن الحكومة تصرّ على سحب كل السلاح الفلسطيني من المخيمات الواقعة جنوب نهر الليطاني، لا سيما مخيمَي الرشيدية والبص، خصوصًا أن عددًا من المتورطين في إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان يقطنون في هذه المخيمات.
وفي الصحف العربية الصادرة اليوم:
لا تزال تداعيات الزيارة الاميركية الى دول الخليج تحتل حيزًا من الاهتمام، حيث أوضحت صحيفة "الرياض" السعودية أنها "تعبر عن نجاحات عظيمة للدول الثلاث التي زارها الرئيس ترامب انطلاقًا من أنها أصبحت وجهة رئيسية لرئاسة الدولة الأولى والقطب الأوحد في المجتمع الدولي، والأكثر هيمنة ونفوذًا في السياسة الدولية"، معتبرة أن "جميع دول المنطقة –العربية وغير العربية – أمام فرصة تاريخية للتقدم نحو المستقبل وتحقيق التنمية الشاملة التي تتطلع لها شعوبها، فهل تستثمر هذه الدول الإقليمية في الفرص المتاحة لتتقدم في سلالم الريادة العالمية كما فعلت، ومازالت تفعل، الدول العربية الثلاث: المملكة العربية السعودية وقطر والامارات العربية المتحدة؟!".
صحيفة "الوطن" البحرينية، بدورها، رأت أن الزيارة "حملت في طياتها أهدافًا اقتصادية واستراتيجية تتجاوز الأطر التقليدية للعلاقات الدبلوماسية، لتصل إلى عمق المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، فالتعاون في مجالات الاستثمار، في الطاقة، والتكنولوجيا والتنمية المستدامة، أصبح محورًا أساسيًا لهذه الزيارة"، منوهة الى أن "القمة الخليجية الأمريكية لا تُعدّ مجرد اجتماع دبلوماسي، بل فرصة لرسم مسارات جديدة من التعاون الاقتصادي والسياسي، بما يحقق مصالح دول الخليج ويؤثر بشكل مباشر على الاستراتيجيات العالمية".
من جهة أخرى، أشارت صحيفة "الخليج" الاماراتية الى أن "إسرائيل تواجه، لأول مرة في تاريخها، رفضًا واسعًا لجرائمها الممنهجة يتجاوز بيانات الشجب والإدانة، باتخاذ مواقف إجرائية عقابية كخطوة أولى، إذا لم ترتدع وتحترم الالتزام بحقوق الإنسان"، مؤكدة أن "أوروبا بدأت تتخلى عن دعمها لإسرائيل باتخاذ إجراءات مؤسساتية تعبيرًا عن رفضها لسياسات حكومة نتنياهو، إضافة إلى تزايد أعداد الدول التي تعلن عزمها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. إنها صحوة لها ما بعدها، إذ باتت إسرائيل في مواجهة أخطر أزمة سياسية منذ وجودها".
الوضع في غزة عبرت عنه صحيفة "الأهرام" المصرية من خلال اعادة الحديث عن رؤية الرئيس دونالد ترامب إلى القطاع "كشركة عقارية يحلم بتحويله إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وهو مشروع أمريكي يقوم على التهجير القسري للفلسطينيين أصحاب الأرض"، مشيرة الى "أن ردود الفعل المستهجنة عالميًا وإقليميًا، دفعته إلى "فرملة" تطلعاته قبل جولته الخليجية…الا أن دعم ترامب، لصفقة القرن، ورفض حق العودة، يشكلان جزءًا من رؤيته الاستيطانية القائمة على حساب دماء الفلسطينيين".
من جانبها، تطرقت صحيفة "الدستور" الاردنية الى القمة العربية التي عُقدت في بغداد وما تمثله من "رصيد تراكمي للوضع العربي وذلك امتدادًا للقمم السابقة، ولمؤسسة الجامعة العربية، بل للأمة العربية كمجموعة بشرية يجمعها المصالح والتاريخ واللغة والتراث المشترك". واضافت "بيان قمة بغداد إضافة سياسية مهمة وإيجابية، إضافة إلى قرار حكومة (رئيس الوزراء العراقي محمد شياع) السوداني برصد 20 مليون دولار للمساهمة في إعمار غزة، رافعة داعمة للنضال الفلسطيني الذي يشكل العمل الوحيد المطلوب لدحر الاحتلال وهزيمة مشروعه وحرية فلسطين، فالأرض لا يحرثها إلا عجولها"، بحسب تعبيرها.
(رصد "عروبة 22")