يتحدّد مفهوم القوة الناعمة لدى ناي إذن، قياسًا إلى مفهوم القوة الخشنة، التي غالبًا ما تجد ترجمتها العسكرية بالحروب المباشرة، وترجمتها السياسية بالمضايقة بالهيئات الدولية والإقليمية، وترجمتها الاقتصادية بامتطاء ناصية الضغط والمقاطعة والحصار.
ولمّا كانت القوة الخشنة كذلك، فإنّ غريمها المفترض (القوة الناعمة أقصد) إنما يتغيّا وللأهداف ذاتها ربّما، أساليب رخوةً، قوامها نشر الأفكار والمعلومات، ودعم قنوات البث الإذاعي والإرسال التلفزي، وترويج سلع وخدمات وبرامج معلوماتية، يكون المبتغى منها زعزعة ثقة الناس في طبيعة النّظام القائم، أو تشويه صورة القائمين عليه، أو إغراءهم جميعًا بـ"مزايا" تبدو لمالك القوة الناعمة (والخشنة) أنّها الأمثل والأصلح والأنجع وسبيل الخلاص.
القوة الناعمة عنصر مُكمّل لسياسة إداراتٍ أميركية لا تُراهن إلّا على القوة الخشنة
هي من دون شكّ أداةٌ من أدوات الحرب النفسية التقليدية، القصد منها تجنّب اللجوء للقوة العسكرية المُكلفة ماديًا وبشريًا، والمُراهنة على درء خطرٍ أو تحصيل غنيمةٍ دونما كلفة حربٍ أو تبعات تدخّل.
يقول جوزيف ناي: "لقد أضحى في العالم المعاصِر، من الصعب استخدام العصا... إذ القوة العسكرية، على الرَّغم من ضرورتها كسياسة ردعٍ وإكراهٍ، فهي أصبحت صعبةً جدًا. وأصبحت الحرب أمرًا جدّ مكلفٍ من الناحية المادية..."، ناهيك عن المناهضة المدنية المتزايدة للحروب والتوتّرات واستخدام القوّة في فضّ الصراعات.
لا يُقلّل ناي، على الرَّغم من ذلك، من مركزيّة وأهميّة القوة الخشنة، إذ يعتبرها "ضروريةً وحتميةً" في وجه "الدول القوميّة التي تسعى للحفاظ على استقلاليتها، وكذا المنظمات والجماعات الإرهابية" التي تتبنّى سلوك "استخدام العنف" كأسلوبٍ من أساليب ردّ الفعل.
الأدميرال ناي لا يقلّل إذن من مركزيّة القوة الخشنة، لكنّه لا يستحبّها في المُطلق، بل لا يفضّل اللجوء إليها إلا في حالاتٍ خاصة، أي عندما لا تستطيع أدوات وشعارات القوة الناعمة إتيان أُكلها في الزمن المأمول.
بيْد أنّه لم يعُد، على الأقل منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول (2001)، للقوة الناعمة ذاك الدور الذي عُهِدَ لها، بل غدت عنصرًا مُكمّلًا فقط لسياسة إداراتٍ أميركيةٍ لا تُراهن إلّا على القوة الخشنة، أو على التلويح باللجوء إليها.
لقد تمّ استهداف الولايات المتحدة بداية هذا القرن، فطالت الضربة إيّاها مركزها الاقتصادي والمالي والعسكري، وطال هيبتها بالعلاقات الدولية أيضًا. صحيح أنّها نجحت، بفضل قوتها الناعمة، في تسويق صورة الضحية، لكنّها لجأت للقوة الخشنة لقصف مخابئ القاعدة في أفغانستان، قبل الإقدام على غزو هذه الأخيرة واحتلالها. الولايات المتحدة لجأت للسلوك ذاتِه في حال العراق، فبدأت القوة الناعمة بشيْطنة نظام صدّام حسين، ثم بتسويق سرديّة امتلاكه أسلحة دمارٍ شاملٍ، لتتمّ "المناداة" في أعقاب ذلك، على أدوات القوة الخشنة لقلب نظام الحكم هناك، ثمّ احتلال البلد بالجملة والتفصيل.
نحن بهاتيْن الحالتيْن على الأقلّ، إنّما إزاء عملية مزجٍ دقيقةٍ بين القوّتَيْن، مع الفارق أنّ للقوة الخشنة الكلمة/الفصل عندما تُهيَّأ الأجواء، "وتقتنع النفوس" ويُصوَّر الأمر كما لو ألّا بديل عن القوة. هذه الأخيرة هي عنصر الحسم، فيما تركن القوة الناعمة إلى تبرير الاختيار وشرْعنة القرار.
جعلوا من القوة الناعمة أداةً للتطويع والترويض
القوة الخشنة هنا إنّما تستوظف القوة الناعمة، وتتّخذ منها وسيطًا بالصف الأول، إذ في حين تذهب القوة الخشنة إلى أقصى مداها في الهدم والتدمير والقتل، لا تتوانى القوة الناعمة عن تبرير السلوكيات ذاتها واستحضار ظروف التخفيف لديها. وفي حين تذهب القوة الخشنة إلى تدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها، تُسارع أدوات القوة الناعمة إلى اعتبار ذلك مجرّد "حدثٍ عرضيّ غير مقصود".
لو عاينّا سلوك أدوات "القوة الناعمة" فيما جرى ويجري من حرب إبادة في غزّة، للاحظنا أنّها لا تخرج كثيرًا عمّا رسمه لها الأدميرال ناي. لقد جنحت كبريات الشبكات التلفزيونية الأميركية وأعتى مراكز الدراسات والبحوث، وأشهر الجامعات، ومختلف وسائط التواصل الاجتماعي، لتبرير الاصطفاف الأميركي خلف إسرائيل، في زمن بايدن وفي زمن ترامب على حدٍّ سواء. لقد جعلوا من القوة الناعمة مجرّد تابع لسلوك خشن، وجعلوا منها أداةً للتطويع والترويض. يبدو هنا أنّ مقولة "السلام بالقوة" التي يُروِّج لها ترامب لا تخرج كثيرًا عن هذه السرديّة. إنّها تنهل منها الروح.
(خاص "عروبة 22")