بالنّظر إلى المجتمعات العربيّة، تظهر أمامنا نتيجةٌ بديهيةٌ ممثّلةٌ بتفاوتاتٍ واضحةٍ على الرَّغم من وجود مشتركٍ عامٍّ يدلّ عليه ارتفاع نسب المتعلّمين وولوج التّعليم العالي واقتحام المرأة لسوق العمل وتمتّعها بحقوقٍ واسعة. ما يعمّق هذا المشترك، وهو مشترك عالمي، انخراط المجتمعات العربية في الإعلام الرّقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أكسب المجتمعاتِ العربية درجاتٍ متقدّمةً من الوعي خلقت بواسطتها قطائع تاريخية مع الكثير ممّا كان يربطها، سابقًا، ببديهيّات ويقينيّات وسلوكيّات وَسَمَت وجودها لتاريخٍ طويل. غير أنّه لا بدّ أن نلاحظ، في المقابل، أنّ منظومة القيم كما هي متداولة في هذه المجتمعات ظلّت ثابتةً لا تواكب تطوّر الوعي في تجلّياته المُعاصِرة، ممّا يجعلنا بصدد إشكاليّة فلسفيّة وسوسيولوجيّة عميقة تقتضي كثيرًا من الجهد الفكري والميداني من أجل الفهم المُتبصّر.
من دون عدّةٍ علمية يصعب فهْم الثنائية المتراوحة ما بين تبلور وعي المجتمعات العربية وبين بقائها حبيسة القيم الثّابتة
إذا كان مفهوم تطوّر الوعي يرتبط باتّساع أفق التفكير والاجتهاد في تجاوز الخلط الحاصل بين الموروث والمُكتسب والجنوح إلى العقل، فإنّ ما يميّز هذه المجتمعات التي تشهد ثبات القيم وقوعها في إعادة إنتاج القيم ذاتها، وذلك بخلطٍ مروّعٍ بين الأصيل كقوةٍ دافعةٍ من أجل التّجديد ومواكبة العصر، وبين التقليد المُنغلق بوصفه تعطيلًا لديناميّات التغيير والفهم الأمثل للواقع وما يقتضيه من تحدّيات. وإزاء هذه الثّنائية القائمة على التناقض، لم يستطع هذا "الوعي المُتنامي" المُصطدم بجدار القيم أن ينتقل من آفة التذبذب إلى صحّة التبلور وسلوكه مسلك "الجدّية العقلانية".
هناك تناقضٌ بين النّوايا والخطاب والأفعال، إذ ما زال السياسي والمثقّف في هذه المجتمعات يزاوِج بين مطلب الحداثة والبقاء في منطق القدامة المُنمّطة في علاقتها بالدولة والمجتمع والأسرة والذّات. ينتج عن ذلك، موازاةً مع تبلور وعيه، وقوعه في إعادة إنتاج مستمرّة للقيم المرتبطة بالتقليد في جانبه المظلم، مما يخلق فجوةً مُشينةً بين وعيه الفردي وإرادته العملية في التغيير. هذا ما يفسّر، أنثروبولوجيًا، مصادِر خوفه من الدّولة ومن فقدان الهويّة ومن أيّ مغامرة قد تمسّ بمصالحه. ومن ثمّة، يصعّب من دون عدّةٍ علميةٍ متينةٍ، فهْم هذه الثنائية المتراوحة ما بين تبلور وعي المجتمعات العربية وبين بقائها ونخبها حبيسة القيم الثّابتة.
يملك العرب منظومة قيم ثقافية وجمالية وأخلاقية كانت أساس سموّهم الفلسفي والعلمي والحضاري
حتّى الآن، لم يُفتح نقاشٌ علميّ حول تطوير اتّجاهاتٍ فكريةٍ تخصّ الارتقاء بمنظومة القيم العربية متماشيةً مع نوعية الوعي المتبلور لدى الأفراد والجماعات. يكاد أن يكون النّقاش محصورًا حول مفهوم تطوّر المجتمعات العربية من منظورٍ أحاديّ، أو بدلالةٍ فيها الكثير من الإسقاط والتّعميم. لأنّ مسألة نقد القيم لم تخرج عن دلالة الذمّ أو المدح، ولم ترتقِ إلى معنى إعادة البناء بما يجعل القيم العربية، من داخل نسغها التاريخي، محطّات للحوار والتناظر مع قيمٍ مخالفةٍ تهدف المشاركة إلى بلورة "الإنسانية العادلة"، التي تعني تشارُك كلّ القيم الخيّرة للشعوب والأمم في بناء قيمٍ إنسانيةٍ كلّية.
ما يملكه العرب اليوم، ليست القيم الاقتصادية ولا العِلمية، لأنّها في سياقها المُعولم تخصّ الآخر فقط، وإنّما يملكون منظومة قيمٍ ثقافيةٍ وجماليةٍ وأخلاقيةٍ، كانت أساس سموّهم الفلسفي والعلمي والحضاري في الماضي. من خلالها وحدها، باعتبارها المُتاح الوحيد الذي يملكونه في تاريخهم المشرق، يستطيعون المساهمة في بناء القيم الإنسانيّة الكونيّة.
(خاص "عروبة 22")