مع ذلك، ثمّة وقفة واجبة مع نغمة انتقاد المقاومة من منظور التكلفة الفادحة التي نجمت عن أعمالها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبغضّ النظر عن أنّ حركات مقاومة الاستعمار كافّةً دفعت هذا الثمن الباهظ للاستقلال، كما في التجربة الجزائرية وتجربة جنوب أفريقيا وغيرهما، فإنّه من غير الدقيق الاكتفاء بحديث التكلفة الباهظة عند تقييم العمل المقاوم. فكما أنّ حديث التكلفة صحيح، ثمّة إنجازات لا يمكن التغاضي عنها، بخاصة أنّها مُرشّحة للتبلْور يومًا بعد يوم.
الاحتجاجات شملت صفْوة الجامعات الأميركية وقطاع يُعْتَدّ به من اليهود الأميركيين غير الصهاينة شارك فيها
على سبيل المثال، فإنّ أحدًا ليس بمقدوره الاستخفاف بالتكلفة الاقتصادية التي تكبّدتها إسرائيل في حربها على غزّة والضفّة، أو بالانقسام السياسي الذي حدث وما زال مستمرًّا، بل وآخذًا في التفاقم سواء في أوساط الرأي العام، أو داخل النّخبة السياسية، أو بين المستويَيْن السياسي والعسكري. وكلّها مجالات لا بدّ من بحثها بدقّةٍ كي يكون ممكنًا التوصل إلى تقييمٍ حقيقيّ لما جرى ويجري في المنطقة منذ سنة وثلثَي السّنة. وتهتمّ هذه المقالة تحديدًا بالتحوّلات الواضحة التي طرأت على توجّهات الرّأي العام الدولي منذ بدأت إسرائيل حربها على غزّة وحتى الآن.
بدأت التحوّلات في الرأي العام الدولي بفعل الوحشيّة الإسرائيليّة في غزّة والضفّة، وصمود الشعب الفلسطيني في مواجهتها، واتخذ ذلك في البداية شكل احتجاجاتٍ قامت بها نخبٌ أوروبيةٌ عديدةٌ حتّى في دولٍ عُرفت نُظمها الحاكمة بانحيازها الواضح لإسرائيل كألمانيا، بل إنّ الاحتجاجات وجدت طريقها إلى داخل الولايات المتحدة سنَد إسرائيل الأوّل، الذي لولاه لما صمدت في هذه الحرب الظالمة. ولوحظ أنّ الاحتجاجات شملت صفْوة الجامعات الأميركية، حتّى أنّ ترامب حاليًا منخرط في معركةٍ بالغة الإضرار بالسّمعة الأميركية ضدّ جامعة "هارفارد" العريقة. ولوحظ كذلك أنّ قطاعًا يُعْتَدُّ به من اليهود الأميركيين غير الصهاينة قد شارك في هذه الاحتجاجات، وأعلن تبرّؤه من السياسات الإسرائيلية كتعبيرٍ عن أتباع الديانة اليهودية، فضلًا عن الأميركيين الأفارقة والمتحدّرين من السكان الأصليين، ناهيك بذوي الأصول العربية والإسلامية.
يستطيع من يشاء من الدول العربية أن يضع يده في يد الدول الأوروبية من أجل تعزيز الحراك باتجاه "حلّ الدولتَيْن"
وقد بدأت هذه الاحتجاجات على الصّعيد غير الرسمي، ثم أخذت تتحوّل بالتدريج إلى المستوى الرّسمي، ولنقارِن موقف الرئيس الفرنسي في بداية الحرب من المقاومة التي ساوى بينها وبين "داعش"، وطالب بتكوين تحالفٍ دوليّ للقضاء عليها، كما حدث مع "دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام" بعد 2014، بالموقف الفرنسي الحالي الذي يقف على أعتاب الاعتراف بالدّولة الفلسطينية. وغير ذلك من المواقف المعارِضة للسياسة الإسرائيليّة.
ولنقارِن أيضًا الموقف البريطاني في ظلّ حكم المحافظين بالموقف الذي تتبنّاه الحكومة العمّالية الحالية، بل إنّ مواقف العديد من الدول الأوروبية قد بدأت تشير إلى تعاطفٍ واضحٍ مع الحقوق الفلسطينية، ونيةٍ في الاعتراف بدولة فلسطين، ورغبةٍ في فرض عقوباتٍ على إسرائيل. كما أنّ الاتحاد الأوروبي ناقش بالفعل فضّ الشراكة مع إسرائيل، وغير ذلك من التطوّرات الإيجابية من المنظور الفلسطيني.
تبلْور المواقف الدولية المُؤيّدة لتصفية الاستعمار لعب دورًا مهمًا في إنجاز هذه العملية التاريخيّة
يستخفّ البعض بهذه التحوّلات، ويرى أنّها جاءت متأخرةً وغير كافية، وللردّ على هذه الانتقادات يجب تذكّر المثل القائل بأن تأتي متأخرًا خير من ألّا تأتي أبدًا، وأنّ هذه التحوّلات في مُجملها تجعل مواقف دولٍ أوروبيةٍ عديدةٍ أفضل من مواقف الكثير من الدول العربية. كما أنّ هذه التحوّلات تتّسم بالطابع الحركي، أي أنّها آخذة في التطوّر، ويستطيع من يشاء من الدول العربية أن يضع يده في يد تلك الدول الأوروبية من أجل تعزيز الحراك باتجاه "حلّ الدولتَيْن"، وهو ما تقوم به بالفعل دول مثل مصر والسعودية وغيرهما.
ويجب ألّا ننسى أنّ الخبرة التاريخية لحركات التحرّر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية تُفيد بأنّ تبلْور المواقف الدولية المُؤيّدة لتصفية الاستعمار لعب دورًا مهمًا في إنجاز هذه العملية التاريخيّة، ويبدو هذا أوضح ما يكون في تجربة تصفية النظام العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كان لتشديد العقوبات الدولية عليه بعد افتضاح طبيعته العنصرية القبيحة دورٌ مهمّ في تصفية ذلك النظام.
(خاص "عروبة 22")