في منطقة ليس فيها مكان للمترددين، يعرف الأردن ما الذي يريده في مواجهة وحش إسرائيلي يرمز إليه شخص بنيامين نتنياهو. بات على الأردن مواجهة اليمين الإسرائيلي وأحلامه المستحيلة من جهة والتطرّف من جهة أخرى. عادت الضفّة إلى الواجهة. اختار الأردن مواجهة أطماع إسرائيل التي يبدو أن لا حدود لها. تصدّى الملك عبدالله الثاني لهذا التوجّه الإسرائيلي ولايزال يتصدّى له. يفعل ذلك عبر طرح واقعي يقوم على ركيزتين. الأولى ضمان الاستقرار الإقليمي، وهو استقرار لا يمكن أن يتحقق في غياب الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
أمّا الركيزة الثانية، فهي تتمثل في منع إسرائيل من تهجير جديد للفلسطينيين إلى الأردن. باختصار شديد يرى الأردن في حماية الشعب الفلسطيني وتمكينه من تحقيق طموحاته المشروعة مصلحة وطنية قبل أي شيء. أظهرت تجارب السنوات الماضية، خصوصاً منذ استطاع الأردن في العام 1970 حماية المنظمات المسلحة الفلسطينية من نفسها أنّه لا يمكن الاستخفاف بالمملكة. ظهر ذلك مرّة أخرى من خلال الخطاب القصير الذي ألقاه الملك عبدالله الثاني في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمّة (مجلس النواب ومجلس الأعيان).
كان الخطاب خطاب الوضوح الذي يظهر القوة الناعمة التي تمتلكها المملكة، وهي قوّة جعلت من المملكة الأردنية الهاشمية صاحبة دور محوري في المنطقة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالقضيّة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. تكمن أهمّية القوة الناعمة الأردنية في حماية الضفّة الغربية التي بدأ اليمين الإسرائيلي يركّز عليها أكثر مع وقف النار في غزّة. سمحت القوّة الناعمة للمملكة بلعب دور في غاية الأهمية على الصعيد الإقليمي. إنّه دور غير مرئي بالنسبة إلى كثيرين من الذين يرفضون الاعتراف بما قام به الأردن، ومازال يقوم به، من أجل فلسطين.
شمل هذا الدور عملية ترويض للرئيس دونالد ترامب ودفعه إلى اتخاذ موقف أقلّ عدائية من الشعب الفلسطيني في ضوء حرب غزّة. ذهب الدور الأردني إلى أبعد من ذلك عندما بعث عبدالله الثاني برسائل عدّة، بطرق مختلفة، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي. فحوى الرسائل أن الأردن لن يقف مكتوفاً في حال استغلت إسرائيل حرب غزّة لتهجير سكان الضفّة الغربية في اتجاه الضفّة الشرقية من نهر الأردن. بكلام أوضح لن يقبل الأردن، حتى لو اضطر إلى استخدام القوّة، بتهجير أهل الضفّة الغربيّة إليه.
في فبراير الماضي، حصل لقاء في البيت الأبيض بين العاهل الأردني والرئيس الأميركي الذي بدا، من خلال الكاميرات التي كانت تسجّل الحدث، كأنّه اتخذ موقفاً عدائياً من عبدالله الثاني داعياً إلى إخلاء غزّة من سكّانها بغية إعادة إعمارها وتحويلها إلى منتجع سياحي كبير. استطاع عبدالله الثاني، الذي كان حلّق فوق غزّة في أثناء إلقاء طائرات شحن عسكريّة أردنيّة مساعدات لأهل القطاع، إقناع ترامب بأنّ هناك ثلاثة مواقع داخل القطاع يمكن نقل الفلسطينيين من سكان غزّة إليها. يمكن لهؤلاء البقاء في تلك المواقع في انتظار مباشرة عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الدائرة. وجد الرئيس ترامب منطقاً في كلام عبدالله الثاني، خصوصاً أن الأخير أشار إلى أنّ مثل هذا الحل "أقل كلفة" من إفراغ غزّة من سكانها.
اختزل عبدالله الثاني الموقف الثابت للأردن في مرحلة يعتبر فيها أنّ لا مجال لأي تسوية سياسية مع حكومة برئاسة نتنياهو. قال في افتتاح الدورة العاديّة لمجلس الأمة: «اليوم، نقف أمام الكارثة التي يعيشها أهلنا في غزة، الصامدون، ونقول لهم: سنبقى إلى جانبكم بكل إمكاناتنا، وقفة الأخ مع أخيه. سنستمر في إرسال المساعدات الإغاثية وتقديم الخدمات الطبية الميدانية. كما لن نقبل باستمرار الانتهاكات في الضفة الغربية، فموقف الأردنيين راسخ لا يلين، تماماً كوطنهم. وانطلاقاً من دور المملكة التاريخي تجاه القدس الشريف، يواصل الأردن بشرف وأمانة، الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية.
لا تراجع أردنياً أمام نتنياهو، بل عمل دؤوب يستهدف الاستعانة ببداية إدراك أميركي لواقع يتمثل في أن اليمين الإسرائيلي الحاكم لا يمتلك أي مشروع سياسي من أي نوع باستثناء تهجير الفلسطينيين من أرضهم. لعب عبدالله الثاني دوراً طليعياً منذ فترة طويلة يتجاوز عمرها العشرين عاماً في إقناع العالم، بمن في ذلك الولايات المتحدة، بأن لا استقرار في المنطقة من دون قيام الدولة الفلسطينيّة. يحظى الموقف الأردني الواضح من الدولة الفلسطينية بدعم عربي كبير، خصوصاً في ضوء الجهود التي تبذلها السعودية ودول أخرى مثل دولة الإمارات العربيّة المتحدة في مثل هذا المجال.
طرأ تغيير طفيف، لكنه مهم، على الموقف الأميركي من حكومة نتنياهو، خصوصاً بعدما استطاعت الإدارة الأميركيّة فرض وقف النار في غزّة. مثل هذا التغيير، الذي لم يكن الأردن بعيداً عنه، ليس كافياً. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ القوة الناعمة الأردنية باتت جزءاً من العمل العربي المشترك الذي لا يستطيع تجاهل أنّ حرب غزّة غيرت المنطقة وموازين القوى فيها. فوق ذلك، بات الدفع في اتجاه تسوية سياسية، أمراً ضرورياً في منطقة تعاني من الفراغ السياسي الإسرائيلي من جهة وعبثية تنظيمات وقوى متطرفة وضعت نفسها في خدمة اليمين الإسرائيلي من جهة أخرى.
بقوته الناعمة يواجه الأردن كلّ أنواع التطرف. يفعل ذلك بهدوء ليس بعده بهدوء من منطلق أنّ لا أحد يستطيع إلغاء الأردن ودوره الإقليمي وحقوقه كدولة محوريّة من دول المنطقة.
(الراي الكويتية)

