بالرغم من وجود ثغرات متعددة في هذه النظرية، حيث انتقد الباحثون مفهوم الجيل نفسه، والبُعد الأيديولوجي الكامن في النظرية، و"تمزيقها " للحقوق فإنّ تقسيم "V. Karel"، بقي معمولًا به، إذ ظهر حديث عن جيل رابع للحقوق.
"الجيل الأول" يمثل الحقوق المدنية والسياسية، وهي تتعلّق بممارسة حرّية التعبير والحقّ في المشاركة السياسية والحقّ في التصويت وحرّية التديّن، وحقّ اللجوء إلى المحاكم والتمتّع بمحاكمة عادلة، وعدم التعرّض للتعذيب والاعتقال التعسّفي، والحقّ في التملّك والتنقّل وعمومًا المساواة أمام القانون وضمان صون الكرامة الإنسانية. وقد تضمّن الإعلان العالمي للحقوق في مواده مجمل هذه الحقوق، وإن كان هناك نقاش حول القوة الإلزامية للإعلان.
ولاحظ الخبراء أنّ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ سنة 1976، قد تضمّن تفصيلًا لهذه الحقوق، وتوسّعًا فيها، مع التأكيد على ضرورة تأسيس هيئة من الخبراء لمراقبة تنفيذ مقتضيات هذا العهد الدولي ومن الحقوق التي أضافها، حقوق الأقليات وحقوق الطفل.
أما "الجيل الثاني"، فقد تضمّن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية. وهي حقوق من المفروض أن تكفلها الدول، مثل الحقّ في العمل والضمان الاجتماعي والحقّ في الصحة والتعليم، وعمومًا حقّ الولوج إلى المرافق العمومية والاستفادة من خدمات الدولة دون تمييز.
وبالنسبة إلى "الجيل الثالث"، فقد نصّ على حقوق التضامن، وهي الحقّ في التنمية والحقّ في السلم والحقّ في بيئة سليمة والحقّ في الميراث الإنساني المشترك. ويلاحظ أنّ الاختلاف بين الدول حول هذه الحقوق كان بسبب التحفّظ السياسي، بينما سنرى أنّ حقوق "الجيل الرابع" تعرف تباينًا في مواقف الدول بسبب التحفّظ الديني والثقافي.
الحقوق الرقمية عامة فيها إشكالات كبيرة ويجب أن تخضع للرقابة
وترتبط نشأة "الجيل الرابع" للحقوق بالتحوّلات التكنولوجية الجديدة، وتغيّر المجتمعات، وتنامي الفردانية الفائقة، وانقلاب القيم، وكذلك هيمنة الحقّ على الواجب، والانبهار بالتكنولوجيا إلى حدّ الاعتقاد بأنها هي "المخلّص المنتظَر".
ويشتمل هذا "الجيل الرابع" على حقوق يمكن الاتفاق عليها مثل الحقّ في المعلومات ولكن بشرط حماية الخصوصية، لكن الحقوق الرقمية عامة فيها إشكالات كبيرة، ومن ذلك حقّ الطفل خاصة في الولوج إلى العالم الرقمي وما يشكّله ذلك من خطر على نموّه النفسي وأخلاقه وعقيدته، وكذلك الحق في هوية رقمية للجميع، وما يتضمّنه من انسلاخ عن الواقع والتقوقع في العالم الافتراضي، بل تقمّص شخصيات ذات مدلول غير أخلاقي، والانغماس في اللعب وممارسة التكشّف والتعرّي، والتجسّس على الآخرين، بل ممارسة أعمال غير قانونية مثل ما يقع في الانترنت المظلم، لذا فإنّ الحقوق الرقمية يجب أن تخضع لرقابة الدول، ولا يعني ذلك إلغاء حق الاستفادة من الانترنت.
كما أنّ الحقّ في الموت الرحيم، يُعتبر إشكالًا أخلاقيًا كبيرًا وليس هناك اتفاق بين الدول عليه، والدول العربية تعتبره جريمة، والله نهى عن قتل النفس. ويشكّل الحقّ في تغيير الجنس بدوره تحديًا أخلاقيًا ودينيًا للدول العربية، والبعض يلجأ إلى ممارسة هذا الحقّ في البلدان التي تعتبر ذلك مشروعًا. أما الحقّ في نقل وزرع الأعضاء البشرية، فيعرف تضاربًا في الآراء بين القبول والرفض. والأمر نفسه بخصوص الحقّ في التصرّف في المنتجات البشرية، فالحقّ في التلقيح الاصطناعي، إذا كان التلقيح بنطفة الزوج داخل الرحم، فهو بين قبول ورفض حسب الحالات، وهناك نقاش فقهي حول المسألة، أما الحمل من خلال استئجار الرحم فهو محلّ رفض من طرف الدول العربية، بينما لا تعترض عليه جلّ الدول الغربية.
أما الحق في الاستنساخ البشري فهناك اتفاق دولي على رفضه والتنديد بالفكرة، لكن تيار الفكر ما بعد الإنساني Posthumanism، يروج لمبدأ الحقّ في تجاوز الطبيعة الإنسانية والتحضير لقدوم ما بعد الإنسان، وهو مطلب خطير، يشكّل تهديدًا للحضارة الإنسانية.
التحوّل الحقوقي الخطير يهدّد السلم الاجتماعي... ويتعيّـن تأهيل الأجيال العربية لمواجهة هذا المدّ الكاسح
ويلاحظ أنّ هذا "الجيل الرابع" للحقوق، يتبلور ضمن سياق عالمي جديد يتّسم بتطوّر هائل في مجال تكنولوجيا الاتصالات ومجال التكنولوجيا الحيوية، بحيث أسفرت عن مطالب جديدة، منها ما هو مقبول ومنها ما يُشكّل استفزازًا لثقافات شعوب، ومنها العربية والمجتمعات الإسلامية، وكذلك بعض الطوائف الدينية المسيحية واليهودية. كما أنّ بعض هذه الحقوق يتنافى مع مبدأ عام تستند إليه المنظومة الحقوقية، وهو مبدأ صون وحماية الكرامة الإنسانية.
والعالم العربي معنيّ بهذا السجال الكبير وهذا التحوّل الحقوقي الخطير الذي يهدّد السلم الاجتماعي وتماسك المجتمع والمسّ بمقومات الفطرة الإنسانية. فنحن أمام تحديات تربوية وفكرية وسياسية، وهناك حاجة في ظلّ هذه "الطفرة الحقوقية"، إلى التفكير في إعادة النظر في مبدأ "عالمية" حقوق الإنسان والعمل على كشف التحيّزات القيمية والثقافية والسياسية في المنظومة الحقوقية الجديدة.
ويتعيّن كذلك تأهيل الأجيال العربية الحاضرة والقادمة لمواجهة هذا المدّ الكاسح، وتمكينهم من آليات التفكير النقدي والتمحيص الأخلاقي، والقدرة على مقاومة التفسّخ الأخلاقي، وهذا يستدعي رعاية الحقّ في التعليم والتفكّر والتديّن السليم، ومواجهة عصر التفاهة ومسخ الكينونة الإنسانية.
(خاص "عروبة 22")