في إحدى خرجاته الإعلامية، قال الرئيس دونالد ترامب "إنّه غاضبٌ من إسرائيل وإيران". قد تكون هذه الجملة ردّة فعل على تأخّر وقف إطلاق النار بضع ساعات، لكنّ صداها رنّ في المِخيال العربي أنّهما "وجهان لعملةٍ واحدة".
حربٌ بهزيمة مزدوجة
توقفت الحرب بعد 12 يومًا من التراشق الصاروخي والقصف الجوي، بقرارٍ أميركيّ فرضه الرئيس ترامب، الذي اعتبر نفسَه المنتصِر الوحيد في هذه المعركة التي خرج منها البَلَدَان بنصف هزيمة لكلّ منهما، من دون تحقيق أيّ فوز استراتيجي يُذكر. فقد فشلت "القبّة الحديديّة" في التصدّي لكلّ الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي تمكّن بعضها من الإفلات ليلًا، وضربت العمق الإسرائيلي، مُخلّفةً خسائر في الأرواح والبنايات.
صرفت طهران عشرات مليارات الدولارات على منشآتها وبرنامجها النووي على حساب التنمية الاقتصادية المحلية
في الاتجاه المقابل، استباحت المقاتلات الإسرائيلية، والطائرات الشبحية والذكية، مثل "إف 35" و"إف 15 و16 و18" و"بي 2"، المجال الجوي الإيراني طولًا وعرضًا، واصطادت ما شاءت من الأهداف العسكرية والمدنية، والأشخاص المقرّبين من النظام، والعلماء المساهمين في المشروع النووي، بتعاون وتواطؤ مع عملاء على الأرض، ممّا يؤكد قوّة الاختراق الاستخباراتية الإسرائيلية من جهةٍ، وحجم الحنق الذي يكنّه جزء من الشعب على نظام الحكم من جهةٍ ثانية. وقد ساعد هذا الوضع المقاتلات الأميركية على ضرب ثلاثة مواقع للبرنامج النووي في "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، اختلف العلماء حول حجم الضرر فيها، هل كان جزئيًا أو كليًّا، وما هي قدرة إيران على إعادة إحيائه والمدى الزمني.
الإنفاق النووي قبل الإنفاق التنموي
لا تكمن التكلفة في حجم الدمار، ولكن في كلفة إعادة التجربة النووية في ظلّ خيارَيْن: إمّا العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة، والخضوع لإشراف وكالة الطاقة النووية، على صيغة برنامج الأسلحة الكيماوية العراقية عام 2003؛ أو الخروج والممانعة، وهذا يعني مزيدًا من العقوبات الاقتصادية والتجارية، ومزيدًا من الفقر والمعاناة الاجتماعية للسكان العاديين، الذين يُفضّلون التنمية على التسلّح. لقد صرفت طهران عشرات مليارات الدولارات على منشآتها وبرنامجها النووي، على حساب التنمية الاقتصادية المحلية، وكلفة العقوبات الدولية طيلة عقودٍ طويلة، ممّا جعل اقتصاد إيران من بين الأكثر تخلّفًا في غرب آسيا، بناتجٍ إجماليّ في حدود 418 مليار دولار لساكنةٍ تتجاوز 90 مليون نسمة. وتُقدر ثروة إسرائيل بـ604 مليارات دولار لساكنةٍ يهوديةٍ وعربيةٍ تقارب 11 مليون نسمة.
أما جيران إيران من العرب المُعتدلين، فقد حققوا تطوّرًا اقتصاديًا مُذهلًا خلال العقود الأخيرة، أثار إعجاب الرئيس الأميركي خلال جولته الخليجية الأخيرة، عندما قال إنّ "بعض ناطحات السحاب عندكم أكثر حداثةً وجماليةً من تلك التي عندنا". ويُقدّر الناتج الإجمالي في الدول الثلاث (السعودية والإمارات وقطر) بنحو 2 تريليون دولار، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي 2025، بدخلٍ فرديّ يصل إلى 71 ألف دولار في قطر، و50 ألف دولار في الإمارات العربية المتحدة، و33 ألف دولار في المملكة العربية السعودية. بينما في إيران فلا يتجاوز الدخل الفردي 4 آلاف دولار أميركي، بعد أن تراجع سعر صرف الريال إلى أدنى مستوياته، بسبب العقوبات وشحّ السيولة من العملة الصعبة، في بلدٍ ينتج نحو 3 في المائة فقط من مجموع الاستهلاك اليومي العالمي من النّفط.
كانت الحرب في بعض تفاصيلها وأهدافها صراعًا وجوديًا بين دولتَين متنافستَين
لكنّ طهران اعتبرت نفسها غير منهزمةٍ في هذه المبارزة، بعد أن تراجعت الإدارة الأميركية ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، عن خيار إسقاط النظام (أو منظومة "ولاية الفقيه") في هذه المرحلة. وقد يكون بقاء النظام الحالي من وجهة نظر الحرس الثوري، أفضل من الناحية الجيوستراتيجية، من تطوير أيّ منظومةٍ حربيةٍ نوويةٍ أو باليستيّة. وتُدرك واشنطن أنّ خصومَها الحقيقيين هم هؤلاء الحرس، الذين عندما كانوا شبابًا احتجزوا مئات موظّفي السفارة الأميركية شهورًا طويلة، عقب سقوط نظام الشاه مطلع عام 1979 ومجيء آية الله الخميني من باريس، وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أي قيام "دولة دينية" من أهدافها تصدير ثورتها إلى الخارج. وكان ذلك السبب المباشر في الحرب مع العراق التي دامت ثماني سنوات.
حسابات نتنياهو الشيطانية
خلال الحرب نفسها، سعى بنيامين نتنياهو إلى إقناع الإدارة الأميركية بأجندة التخلّص من النظام الإيراني، باعتباره يُشكّل خطرًا على أمن إسرائيل وجيرانها العرب المعتدلين، وبأنّها عقبة أمام توسيع دائرة "اتفاقيات أبراهام". لكنّ ترامب الذي يحلم بالحصول على جائزة رجل السلام، فضّل الاكتفاء بضربةٍ ليليةٍ على المنشآت النووية. في المقابل، وجهت إيران كلّ قوّتها لتفريغ إسرائيل من سكانها، ودفعهم إلى النزوح بقصف مبانٍ سكنية وسط تل أبيب وحيفا. لقد كانت الحرب في بعض تفاصيلها وأهدافها صراعًا وجوديًا، بين دولتَيْن متنافستَيْن. وبدا نتنياهو عاريًا من أيّ تأييدٍ إقليميّ، كما أنّ جزءًا من المجتمع الإسرائيلي لم يكن موافقًا على الحرب (مضطر لتأييدها قوميًا)، بعد أن استبقت إسقاط الحكومة، وإعلان الانتخابات المبكرة. وبالموازاة مع الداخل الإسرائيلي، كانت هيئة الأمم المتحدة في نيويورك تستعدّ للتصديق على حلّ الدولتَيْن، واعتراف الأوروبيين بدولة فلسطين، والدعوة إلى وقف الحرب في غزّة، وإطلاق الرهائن والمحتجزين.
الحياد العربي؟!
كان عدد المتفرجين المُحايدين في هذا العراك أكثر من عدد المُصطفّين لهذا الجانب أو ذاك، على الرَّغم من بلاغات الإدانة الحكومية التي طالت إسرائيل في البداية لخرقها القانون الدولي والاعتداء على دولةٍ إقليميّة.
اللعبة انتهت بعد مشاركة الجميع بمن فيهم فئة المتفرّجين
ووضعت الحرب أوزارها ساعاتٍ فقط بعد بلاغات الإدانة العربية هذه المرّة ضدّ إيران، التي انتهكت سيادة دولة قطر، وقصفت قاعدة "العديد العسكرية" التي تضعها الدوحة تحت تصرّف الولايات المتحدة، والتي حصلت بإشعارٍ من إيران حول توقيت الضربة، ونوعية الصواريخ، مع الاعتذار للإزعاج!. وردّ ترامب برسالةٍ على هاتفه ومنصته "تروث سوشيال" يُطلب من الجميع وقف الحرب ومع الشكر!. لأن اللعبة انتهت، بعد مشاركة الجميع.. بمن فيهم فئة المتفرّجين.
(خاص "عروبة 22")