كما يفرض هؤلاء آراءهم عن طريق فرض الرّقابة على الأفلام والإعلانات، وتنظيم حملات مقاطعة البضائع، ومُضايقة اليهود العلمانيين الذين ينتهكون طقوس يوم السبت. كما تعمل الأحزاب الدينية المتطرّفة بكثافةٍ لإقرار قوانين لإعفاء المُتديّنين من الخدمة العسكرية الإلزامية، ولتمرير قوانين للأحوال الشخصية مُستمدّةً من الشريعة اليهودية، والضغط لتعديل النظام القضائي ليتماشى مع أفكار الحاخامات المتشدّدين.
ولكن كيف تمكّنت هذه الأطراف الدّينية المتطرّفة من التحوّل إلى قوةٍ ذات نفوذ اجتماعي وسياسي واسع تتحكّم في مستقبل إسرائيل، بل في المنطقة ككل؟.
من الأهداف الاستراتيجية السياسية للقوى الدينية المُتطرّفة الاستحواذ على المجتمع والدولة
كانت الحركة الصهيونية منذ بدايتها حركةً غير متديّنة، بل كانت في الأصل مُعاديةً للدين، إلّا أنّه مع تراجع الصهيونيّة الدينيّة تصاعدت قوة الاتجاه الديني غير الصهيوني الذي نجح في اجتذاب أعدادٍ كبيرةٍ من المُتديّنين، وهو أمرٌ طبيعيٌ في دولةٍ تستند إلى "اليهودية" في تشريعاتها وهويّتها، بل وفي تبرير وجودها.
بالإضافة إلى هذا البُعد الإيديولوجي، لعب العامل السياسي دورًا مُحدّدًا في ذلك. فتاريخيًا كانت الأحزاب الدينية الإسرائيلية تشارك عادةً في أيّ ائتلاف حكومي وذلك منذ الكنيست الأول سنة 1949، وهو ما يبدو نوعًا من التفاهم والتوافق بين الحزبَيْن الأكبر في إسرائيل والأحزاب الدينية بصفةٍ عامّةٍ على النحو الذي يضمن مشاركة ممثلين عن هذه الأحزاب في أيّ حكومة إسرائيلية سواء شكّلها حزب العمل "اليساري" أو حزب الليكود اليميني.
اختيار قطاع التعليم من قبل القوى الدينية كان محسوبًا بدقة نظرًا لأهميته في تشكيل عقليات وأفكار المجتمع
عادةً ما كانت تُناط بتلك الأحزاب الصغيرة، آنذاك، مهمّة إدارة تفاصيل الشؤون الدينية. ثم في مرحلةٍ لاحقة، ونتيجةً لاحتدام الصراع العربي - الصهيوني بأشكاله المختلفة، أخذ مدار اهتمام تلك القوى يتوسّع وذلك بالتوازي مع تزايد نفوذها السياسي، بعد أن فتح لها بنيامين نتنياهو المجال، في عهد حكومته الأولى (1996)، والثانية (1999) وبخاصّة في ظلّ حكومته الحالية إذ لم يقتصر اهتمام تلك التيارات على المجال الديني، بل على تولّي البعض منهم مناصب بارزة في الكنيست وفي الحكومة (5 وزراء حاليًا). وكان من الأهداف الاستراتيجية السياسية لتلك القوى الدينية المُتطرّفة الاستحواذ على المجتمع والدولة، وذلك من خلال السيطرة على مرفقَيْن أساسيّيْن في الدولة والمجتمع:
- قطاع التعليم: فمنذ حكومة نتنياهو الأولى، تمّ إسناد وزارة التعليم بكلّ فروعها إلى أحد الأحزاب الدينية المُتطرّفة. ويظهر أنّ اختيار قطاع التعليم من قبل هذه القوى الدينية كان محسوبًا بدقةٍ نظرًا لأهميته في تشكيل عقليات وأفكار المجتمع، ما مكّنهم من افتتاح العديد من المدراس الدينية الأصولية. وفي عهد الوزير الحالي يوآف كيش، أطلقت الوزارة مبادرة "شوراشيم" (الجذور)، لتعزيز التعليم اليهودي والصهيوني في المدارس العامّة، وتخصيص منهاج ثابت لتدريس التوراة، وتوحيد مناهج الهوية اليهودية اعتبارًا من 2026، موازاةً مع تعزيز العبادة اليهودية.
وتحت ضغط العملية الانتخابية خصّصت حكومات الليكود المتعاقبة مبالغ طائلة للمتديّنين، الذين قرّروا تعزيز تواجدهم السياسي في الدولة من أجل تحقيق مطالبهم الخاصة وفي مجال التعليم بالذات، الأمر الذي أدّى لارتفاع عدد تلاميذ هذه المدارس وإضعاف القيم العلمانية لدى الأجيال الشابة.
ــ القطاع الثاني هو مؤسّسة الجيش: في هذا المجال، لا يُخفي أكثر من حاخام من المنتمين إلى التيارات الدينية المتطرّفة توجّه تلك القوى لإحكام السيطرة على المؤسّسة العسكرية باعتبار أنّ ذلك يُشكّل مدخلًا هامًّا يضمن لها التأثير في دائرة صنع القرار في الدولة.
لقد كانت نسبة المتديّنين اليهود المتطرّفين في الهيئات القيادية في الجيش أقلّ من نسبة تمثيلهم في المجتمع، قبل أوائل الثمانينيّات من القرن الماضي. وكان أبناء القرى التعاونية (الكيبوتسات)، التي تُمثّل قلاع العلمانية في إسرائيل، ينفردون بالسيطرة على المواقع القيادية في الجيش لدرجةٍ أنّ الانتماء إلى "الكيبوتس" كان يعني الانتماء إلى الوحدات المُختارة، فموشيه ديان وإسحاق رابين وموشيه يعلون وغيرهم من الجنرالات قدموا من "الكيبوتسات" إلى المناصب العليا في الدولة.
40% إلى 60% من الضباط ينتمون إلى أُسَر استيطانية أو مشرقيّة دينية متزمّتة ويساهمون في القرار الاستراتيجي
لقد تغيّرت التركيبة السياسية لتلك المجموعات، منذ أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي، إذ قلّت نسبة خرّيجي "الكيبوتسات" الذين يلتحقون بالوحدات المقاتلة في الوقت الذي أخذت فيه المرجعيات الروحية للتيار الديني توجّه أتباعها للانخراط في الألوية المختارة والوحدات الخاصّة في الجيش. وبالنتيجة، أخذ الجيل الثاني والثالث من أبناء الاستيطان يزحف إلى المؤسّسة العسكرية والمخابراتية لدرجة أنّ 40% إلى 60% من ضباط الأركان والميدان ينتمون إلى أُسَرٍ استيطانيةٍ أو مشرقيّةٍ دينيةٍ متزمّتةٍ، ويساهمون بقدر أو بآخر في القرار السياسي الاستراتيجي، ولا شكّ أنّ ما عرفته المنطقة منذ نحو عقدٍ من الزمن جسّد جزءًا من خيارات هذا التيّار ورؤيته لدور دولة الاحتلال في المستقبل أيضًا.
(خاص "عروبة 22")