في الحرب الروسية – الأوكرانية، تضاعفت أسعار الغذاء لتأثير البلدين الكبير في صادرات الغذاء وتحكّمهما في نحو 34% من إجمالي تجارة الغذاء وبخاصة سلع القمح والشعير وزيت عباد الشمس والذرة الصفراء للأعلاف وفول الصويا، بالإضافة إلى كون روسيا الأعلى إنتاجًا وتصديرًا للأسمدة الكيميائية الضرورية لزيادة إنتاج الغذاء بنسبٍ تتراوح ما بين 30% و50%، وتحكّمها أيضًا في صادرات الغاز الطبيعي اللازم لإنتاج الأسمدة والمبيدات.
وعادةً ما تتسبّب أي صراعات إقليمية في ارتفاع أسعار البترول، خصوصًا إذا كانت الدولتان المتحاربتان أو إحداهما من الدول المُصدّرة للبترول أو للغاز الطبيعي. هذا الأمر يؤثّر بالتبعيّة في أسعار الغذاء لوجود علاقةٍ أكيدةٍ بين أسعار البترول وأسعار الغذاء لارتباط أسعار البترول بأسعار النّقل البحري للسفن التي تنقل الحبوب والغذاء من موانئ الدول المصدّرة إلى موانئ الدول المستورِدة ولارتباطها أيضًا بأسعار الأسمدة والمبيدات كثيفة الاستهلاك للطّاقة، بالإضافة إلى تأثيرها على النقل البرّي الداخلي سواءً في البلد المصدّر أو البلد المستورِد لنقل الغذاء من أو إلى الموانئ إلى أماكن استهلاكها محليًا وعالميًا.
إغلاق مضيق هرمز أو زرع ألغام في مياه الخليج كان من الممكن أن يؤدّي إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط والغذاء
بشكلٍ عامٍّ لا تؤثّر أي صراعات على أسعار البترول، وبالتبعيّة أسعار الغذاء، لكن الحروب بين الدول المؤثّرة في التجارة العالمية فقط سواء في تجارة النفط أو الغذاء أو تلك المتحكّمة في ممرّات عبورهما، بمعنى أنّ قيام حروب بين دول أفريقية داخلية في مالي أو النيجر أو أفريقيا الوسطى لا تؤثر لا على أسعار البترول أو على أسعار الغذاء.
وإذا نظرنا إلى الحرب بين إيران وإسرائيل، فسنجدُ أنّ إيران دولة منتجة ومصدّرة للنفط، بينما إسرائيل أصبحت مؤخّرًا دولةً مُصدّرة قليلًا للغاز، ولذلك ارتفعت أسعار النفط والغاز عالميًا بنسبة 8%، لضعف التأثير العالمي حيث تستأثر الصين بمعظم صادرات إيران من النفط وتستأثر مصر بمعظم صادرات غاز إسرائيل. الأمر الآخر هو تحكّم إيران في حركة الملاحة في مياه الخليج و"مضيق هرمز" اللذين يخرج منهما نحو 20% من تجارة النفط في العالم، وبالتالي فإنّ تهديد إيران بإغلاق المضيق أو تفتيشها للسفن العابرة أو زرع ألغام في مياه الخليج كما فعلت روسيا وأوكرانيا في مياه البحر الأسود منذ عامَيْن، كان من الممكن أن يؤدّي إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط عالميًّا وبالتبعية أسعار الغذاء.
ونعتقد أنّ إيران قد أحسنَت بعدم التدخل في حركة السفن العابرة بالنفط في منطقة الخليج أو إغلاقها لـ"مضيق هرمز" الاستراتيجي. هذا الأمر لو حدث فلربّما كان سيُحدث انفعالًا وتدخّلًا بين الدول المستفيدة من بترول الخليج سواء سلبًا أو إيجابًا وأهمّها الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وهي دولٌ تتربض وتنتظر الفرصة والأوامر للتدخّل، ويقابلها دولٌ كروسيا والصين وكوريا الشمالية وباكستان تنتظر أيضًا الفرصة للردّ والتدخّل حتى لا تكون هي الدول المقبلة في الاستهداف سواء من دولة القطب الأوحد أو من يدور في فلكها. ولربّما أدّى هذا الأمر أيضًا إلى استهدافٍ لمصالح بعض الدول في المنطقة وخلقِ قدرٍ من التوتّر بما يجعل كلّ هذه العوامل تؤثّر في حصول ارتفاعٍ كبيرٍ لأسعار النفط والغذاء عالميًا وتتأثر به المنطقة العربية.
لم تتأثّر بورصات الغذاء والحبوب حتى الآن ولم يحدث ارتفاع ملحوظ سوى في أسعار البترول والشحن البحري والتأمين
تأثُّر الدول المحيطة بمنطقة الصّراع، وهي العراق ولبنان والأردن وسوريا ومصر وإغلاق مطاراتها وموانئها، واعتبار السفن العالمية الناقلة للغذاء أنّها دول منطقة صراع، يعمل على زيادة رسوم التأمين على الشحنات بما ينعكس أيضًا على زيادة أسعار الغذاء، بل ولربّما تضاعُف أسعار الشحن مثلما حدث مع استهداف الحوثيين لبعض السفن المتّجهة إلى البحر الأحمر وقناة السويس ممّا حدا ببعضها إلى سلوك طريق "رأس الرجاء الصالح" الطويل مسبّبًا زيادةً كبيرةً في أسعار شحن الغذاء وتراجع دخل "قناة السويس" بنسبة 60%.
وإذا نظرنا إلى الدولتَيْن المتحاربتَيْن إيران وإسرائيل، نجد أنّ كلتيهما ليستا من الدول المصدّرة للسلع الأساسية والتي تضمّ خمس مجموعات رئيسية تضم 55 سلعةً تدخل جوف البشر يوميًا، وهي مجموعات الحبوب والزيوت والسكر واللحوم والألبان، وهي كما نرى لا تضمّ الخضراوات ولا الفاكهة ولا التوابل والمكسّرات وغيرها من السلع الكمالية التي يمكن للبشر الاستغناء عنها ولا يتأثر بزيادة أسعارها إلّا عددٌ محدودٌ من المواطنين وليس كلّ المواطنين. فإيران دولة مستوردة للسلع الاستراتيجية وأهمّها القمح والأرز والسكر وزيوت الطعام بما يكلّفها نحو 17 مليار دولار سنويًا، على الرَّغم من أنّ رقعتها الزراعية تصل إلى 51 مليون هكتار، ولا تصدّر إلا الموالح والرمان والفستق والزبيب والكيوي والتفاح والزعفران والعصائر وبعض منتجات الألبان والأسماك والطماطم والتمور وبمبالغ لا تتجاوز نصف مليار دولار سنويًا.
الدول البترولية العربية ستستفيد من ارتفاع أسعار النفط بينما ستعاني الدول العربية غير البترولية والمستورِدة لأغلب غذائها
في المقابل، تُصدّر أيضًا إسرائيل الموالح والخضراوات والفاكهة والبطاطس ومنتجات الألبان وهي دولة تعاني من الشحّ المائي وتستورد أغلب سلعها الاستراتيجية على الرَّغم من قلّة عدد سكانها الذي لا يتجاوز 8 ملايين نسمة مقارنةً بنحو 92 مليون نسمة في إيران، وبعجزٍ مائيّ يتجاوز حاليًا 3 مليارات مترٍ مكعبٍ سنويًا. ولهذه الأسباب، لم تتأثّر بورصات الغذاء والحبوب عالميًا حتى الآن، ولم يحدث ارتفاع ملحوظ في الأسعار سوى النّاتج فقط عن ارتفاع أسعار البترول وأسعار الشحن البحري والتأمين على السفن القادمة لدول منطقة الصراع بنحو 8% فيما تُلامس أسعار النفط حوالى 70 دولارًا للبرميل، بينما يُظهر الإنتاج العالمي من السلع الأساسية بمجموعاتها الخمس استقرارًا وزيادةً في إنتاج بعضها، ونأمل ألّا تتفاقم تطورات الصراع وتتدخّل الدول الكبرى وإلّا سيكون الأمر خطيرًا وربّما تتضاعف معه أسعار النفط ثم أسعار الغذاء.
وأخيرًا، نودّ أن نُشير إلى أنّ الدول البترولية العربية ستستفيد من ارتفاع أسعار النفط بما يكفيها لسداد فاتورة ارتفاع أسعار الغذاء، بينما ستعاني الدول العربية غير البترولية والمستورِدة لأغلب غذائها من الأمر ويتأثّر اقتصادها كثيرًا إذا ما تطوّرت الأمور!.
(خاص "عروبة 22")