ذُكرت تلك المقولة بمناسبة إعلان ترامب عن إنشاء "ريفييرا" في غزّة، وأرى من وجهة نظري أنّ قابليّة تنفيذ مخطّط ترامب بتهجير ما يقرب من مليونَي فلسطيني من غزّة إلى دول مجاورة - مثل مصر والأردن ومؤخرًا دخلت ليبيا على الخطّ حتى تتمكّن الولايات المتحدة من إرسال قواتٍ إلى القطاع، وتتولّى المسؤولية، وتقوم ببناء "ريفييرا الشرق الأوسط" وتحويل ساحل غزّة إلى وجهةٍ سياحيةٍ جذّابةٍ على غرار "الريفييرا" الفرنسية أو الإيطالية" - مخططٌ شيطانيّ قابلٌ للتنفيذ، على الرَّغم من الرفض العربي والدولي. وتنفيذه يومًا ما على أرض الواقع فكرة ليست بالمستحيلة كما صوّرها البعض، ولا بد أن ننتبه لذلك جيدًا.
الاقتراح لاقى انتقاداتٍ شديدةً من الأمم المتحدة، حيث اعتبره الأمين العام أنطونيو غوتيريش "تطهيرًا عِرقيًّا"، ووصفته لجنة القانون الدولي التابعة لجمعية المحامين الدولية بأنّه "مخالف تمامًا للقانون الدولي"، مُشيرةً إلى انتهاكه للمادة 7(1)(د) من نظام روما الأساسي، التي تحظر التهجير القسري الجماعي.
الكيان الصهيوني يخطّط ثم يضع آليات التنفيذ خطوة خطوة مُستغلًّا ضعف العرب
أمّا الدول العربية الرئيسية، مثل مصر والأردن، فقد رفضت القبول بمخطّط ترامب، وأكّدت مصر أن مثل هذا الإجراء سيؤدّي إلى "عواقبَ كارثية"، ويُضعف جهود التهدئة، واعتبرت الأردن أنّ التهجير القسري للفلسطينيين يُشكّل تهديدًا وجوديًّا للمملكة. وكذلك، رفضته الدول الخليجية، مثل السعودية وقطر، وأعربت عن رفضها للمخطط، مؤكدةً ضرورة تحقيق حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية.
أحلام حقيقيّة
عمل اليهود على الاستيلاء على فلسطين بشكلٍ مخطّطٍ ومدروسٍ تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب من دون أرض" (A land without a people for a people without a land)، وبوسائل اتّبعت فيها أشرس أساليب التمييز العنصري، مستخدمةً ثلاثية "الضمّ والاستيطان والتهجير"، وكانت محاولات إقامة دولة يهودية تعني بالضرورة تدمير شعب فلسطين العربي.
المُنظمات الصهيونية عملت عبر عشرات السنين على تأسيس "حقّ تاريخيّ مُزيّف"
كلّ ذلك تمّ تدريجيًّا، فالكيان الصهيوني يخطّط ثم يضع آليات التنفيذ خطوةً خطوةً على مهلٍ وبتأنٍّ، مُستغلًّا ضعف العرب وهوانهم على بعض. وبالرجوع لوقائع التاريخ، نجد أن الصهيونيّة استطاعت تحقيق كل أهدافها التي كانت وقتها تعدّ من المستحيلات والتي لا يتصوّرها عقل، وتمّ التنفيذ على مراحل تدريجيّة مُخطّطة، اتُّبعت فيها أساليب متعدّدة تمزج بين العمل السياسي والديبلوماسي والاستيطاني والعسكري، وصولًا إلى السيطرة على الأرض وتهويدها.
لقد عملت المُنظمات الصهيونية عبر عشرات السنين على إقامة تجمعاتٍ استيطانيةٍ يهوديةٍ وتأسيس "حقٍّ تاريخيّ مُزيّفٍ" على الأرض عن طريق نهب أراضٍ فلسطينية من مُلّاكٍ غائبين تمّ طردهم بعد مجازر ارتكبوها، وعددها لا يُحصى، منها مجزرة دير ياسين والطنطورة... إلخ. وبعد طرد الأهالي وتهجيرهم أسَّسوا مستوطناتٍ على أنقاض منازل الفلسطينيين، ونتج عن ذلك أن تحوّلت أملاك اليهود المُغتصبة بالتدريج من نحو 6.5% على أقصى تقدير من أرض فلسطين، إلى استحواذٍ شبه كاملٍ على كلّ الأراضي الفلسطينية.
نكبة 1948 - التهجير القسري واحتلال 78% من فلسطين
تمكنت الصهيونيّة عام 1948 من إنشاء دولة "إسرائيل" على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض مع أقلّ عددٍ من الفلسطينيين عن طريق ارتكاب مجازر (مثل دير ياسين، الطنطورة، اللّد والرّملة... إلخ). وتنفيذ خطة "دالت" لطرد السكان العرب، وهدم أكثر من 500 قرية فلسطينية نتج عنها إعلان دولة إسرائيل على 78% من أرض فلسطين، وتهجير أكثر من 750.000 فلسطيني، وعدم السماح لهم بالعودة على الرَّغم من قرارات الأمم المتحدة.
وفي عام 1967، تم احتلال ما تبقّى من فلسطين (الضفة الغربية والقدس وغزّة) واستكمال السيطرة على كامل فلسطين التاريخية، وبدء مشروع استيطاني ضخم في الضفّة الغربيّة والقدس.
أمّا مشروع الاستيطان بعد اتفاقية أوسلو (1993)، فقد فرضت الاتفاقية سياسة الأمر الواقع لمنع قيام دولةٍ فلسطينيةٍ من خلال بناء مستوطناتٍ ضخمةٍ مثل "معاليه أدوميم"، "أريئيل"... إلخ، وشقّ الطرق الالتفافية وعزل الفلسطينيين بجدار الفصل العنصري، وتهويد القدس، ومصادرة أراضي الضفّة. ونتج عن ذلك وجود أكثر من 750.000 مستوطن في الضفّة والقدس اليوم.
سياسة "التطبيع مقابل التصفية"
كما نجحت الصهيونية بالتدريج في تحقيق التطبيع مع الدول العربية من دون تقديم أي تنازلات للفلسطينيين. ومحاولة دمج إسرائيل إقليميًّا وتهميش القضية الفلسطينية أدّت إلى تحييد الدعم العربي الرسمي للفلسطينيين. وتعزيز رؤية إسرائيل كـ"دولة طبيعية" في المنطقة على الرَّغم من الاحتلال.
وهكذا نجحت الصهيونيّة في تحقيق أهدافها بالتدريج عبر التخطيط طويل الأمد، واستغلال الفرص السياسية الدولية، وفرض وقائع ديموغرافية وجغرافية على الأرض، واستخدام العنف حين يلزم، والمفاوضات حين تفيد.
العرب والبدائل الممكنة
لا بدّ من خطة إعادة إعمارٍ تستند إلى رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ برؤى تخدم مصلحة الشعب الفلسطيني، وترسم خريطة طريق لحاضر القطاع ومستقبله. وتعمل الدول العربية، بقيادة مصر، على تطوير خطةٍ تهدف إلى إعادة إعمار غزّة من دون التهجير القسري للسكان.
من أراد المستقبل فعليه استشارة الماضي
وتشمل هذه الخطة إنشاء لجنة إدارية مؤقتة من تقنيين فلسطينيين لإدارة المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، تمهيدًا لعودة الحياة الطبيعية إلى القطاع. وهي خطة تحتاج إلى موقفٍ عربيّ مُوحّدٍ وفاعلٍ، ولنتذكّر جميعًا أنّ الخطر الأكبر ما زال قائمًا وقادمًا، ولنرجع مرةً أخرى لأخذ العبرة من التاريخ ولنتذكر المقولة المشهورة: "من أراد المستقبل فعليه استشارة الماضي".
(خاص "عروبة 22")