ليس من باب النقاهة الفكرية أن نقف قليلًا على مستوى العلاقة بين المرء وذاته في ما يتعلّق بمنظومة القيم الراسخة لديه، ذلك أنّ التقدُّم الراهن في جوانبه كافة لا يمكن أن ينجز حداثةً في المجتمعات إلا إذا تساوق مع تقدميَّة المنظومة الأخلاقية، أي إلا إذا تفاعلت معه الأخلاق القائمة بمقبولية تجعل استهلاكَه مرحلةً مفيدةً على طريق الإبداع فيه، وإنتاجه مجددًا.
إن التقدُّم الراهن صعبُ الجريان، عربيًّا ودوليًّا، مهما بدا سائلًا في الولوج إلى آخر شخصٍ في آخرِ حيٍّ من آخر قرية نائية، وذلك لشدَّة الافتراق بين القيم المنتِجة للتقدم والقيم المستهلِكة له عالميًّا. وهذا التفكُّك الحاصل ليس مطروحًا مواجهتُه بتشكُّلات بنيوية كبرى واضحة المعالم إلى الآن. فالأحلاف الكبرى التي بإمكانها إزالة القطبية الواحدية التي تتحكم بالعالم سياسيًا واقتصاديًا، لم تظهر في صيغتها الفكرية النهائية، أي في طرحها الفلسفي السياسي الواضح، الذي يحدِّد محاور جديدة للعمل الاجتماعي في هذا العالم الذي انحلَّ فيه النظام العالمي الجديد رغم تعنُّته في البروز السافر؛ حروبًا وتفتيتًا وتدميرًا للاقتصادات وإثارةً للإثنيات والزمر الهُوَوِيَّة الهامشية. لم تعد أميركا هي المسيطر الأوحد، لكن السيطرات الأخرى لم تطرح برامجها بالمستوى التأثيري نفسه للطرح الأميركي الجاثم، إلا مع الحرب الروسية الأوكرانية، التي برَّزَت إلى الواجهة مفاهيم جديدة لتسيير الخطاب السياسي نحو التعدُّدية القطبية بدل الواحدية في إدارة العالم.
الجشع الربحي العالمي لم يعد قادرًا على تحمُّل المسؤولية لوحده، فأشرَكَ الآلة في تحمُّل هذه المسؤولية
نتحدث عن السياسة العالمية في وضعية الفهم للذات، بل في مقام الفهم للفلسفة الأخلاقية الذاتية التي بها يمكننا الاشتراك في التفاعل العالمي الجديد. ذلك أن القراءة الدقيقة للحوادث الراهنة تحدِّد الدور الذي من الممكن أن تقوم به بلداننا في توجيه المسار السياسي بما يخدم مصالح النهوض والتقدم بعد احتلال العراق وتدمير سورية واليمن وما جرى من تدخلات واعتداءات إقليمية ودولية اشتركت فيها مصالح الطامعين. ونقصد على وجه الخصوص التدخلات الأكثر تأثيرًا كالتدخل الإيراني والأميركي والروسي والتركي والإسرائيلي، إضافةً إلى المحاولات الفرنسية وبعض الدول الأوروبية في التحكم ببعض السياسات المحلية، لتحريك قواعد اللعبة كما يجري في لبنان، على سبيل المثال. كل ذلك يستدعي منا عدم الرد السريع على السؤال الكياني العميق في ذات كلٍّ منا، وهو: مَن أنا اليوم؟
نعم، إن السؤال عن الـ"أنا" الحاضرة، هو السؤال التقدمي عن الهُوية الممكنة، أي الهُوية التي من شأنها أن تتماهى بالواقع المعيش، فتُمَكِّن صاحبها من الاختراق الآمن لكل هذا الذي يجري. لذا إن استعادة الذات بوضعها ضمن أيديولوجيا جاهزة، أو مجرَّبة، لا يمكِّنها من مواكبة ما يجري، بل يُفقدها الفاعلية في الوجود المنتج، أي يجعل الهُويَّة نفسها عقبة في التواصل الحتمي المطروح مثلًا مع مجتمع الذكاء الاصطناعي...
إن القيم الجندرية النامية حاليًّا ليست وليدة العدم، بل هي نتيجة الحاجة الملحة إلى مكننة العقل نفسه؛ إن الجشع الربحي العالمي لم يعد قادرًا على تحمُّل المسؤولية لوحده، فأشرَكَ الآلة إراديًّا في تحمُّل هذه المسؤولية. إن الأمان والاستقرار وبناء الأسرة وتحصين المجتمعات بالأفكار الأدبية والعلوم الإنسانية ليس مجديًا بنظر العقل التقدمي الراهن. فالغزو بعسكر المشاة لم يعد هو المشهد الحضوري لاحتلال العالم، بل إن كبسات الأزرار من خلف المحيطات، وآلية إدارة الأمن العالمي، عن بُعد، هي التي ستسود المجتمع التواصلي العالمي القائم. لذلك لا بد من التذاكي على العقل المشترك بين الإنسان والآلة؛ أو بعبارةٍ أوضح إبقاء النباهة العلمية الأخلاقية للسيطرة على الذكاء الاصطناعي، حتى نتمكَّن من فرض هويَّتنا الجديدة التي من شأنها استعادة الأنا الإنسانية إلى موضع الفعل والسيطرة في الوجود.
فهم الذات اليوم يقتضي فهم كل الذوات الموجودة، كما هي، لا كما نريدها
إن نسيان الإنسان هو الحاصل من عدم النباهة العلمية الأخلاقية، أي عدم استحضار حال المجتمع أثناء التفكير بتقدم المجتمع. نعم، هناك عَطَبٌ حاصل في ذهنية الفاعلين العلميين الجُدُد، إنهم لا يقيمون اعتبارًا لسمة الإنسانية في لحظة الانفتاح على الكينونة العلمية خلال التجارب التي يجرونها. غياب الإنسانية، يرسِّخ الانوجاد المتوحش، أي يفقدنا ذواتنا الهنيئة. لذا علينا تفسير انفتاحنا العلمي الحر، كي نتمكَّن من إبداع هُويَّتنا الحرة.
هنا نقول إن الاشتراك في العلم الراهن، عَرَبِيًّا، يجب أن يكون من المتانة بمكان، في أن يفرض البُعد الأخلاقي الإنساني الذي تحملُه ذواتنا في بؤرة الاشتراك مع الأبعاد الأخلاقية الإنسانية الأخرى للشعوب المتنوِّعة المُمكِن تواجدها في أحدث تجربة علمية قائمة، كي لا يسبق العلمُ الأخلاق إلى الوجود أو العكس، فيختلُّ ميزان العيش الآمن.
إن فهم الذات اليوم يقتضي فهمَ اليوم نفسه، أي فهم كل الذوات الموجودة، كما هي، لا كما نريدها، حتى نستطيع إبداع الذات العربية النَّبيهة علمًا وخُلُقًا. فلا هُويَّة خارج الإطار العلمي للعيش، ولا علم خارج أخلاقيات الإنسان في العيش الكريم، يمكن أن يحقق الأمن والسلام بين الناس. فالربح ليس معيارًا للعيش الكريم، بل المؤانَسَة الحرَّة بين البشر، هي ما يجب أن نحرص عليه لفهم الذات.
(خاص "عروبة 22")