تقدير موقف

أحلام التطبيع وأوهامه!

ضمن التصريحات المُتلاحقة والمُتناقضة للرئيس الأميركي، تكرّرت مؤخرًا تصريحاته عن قرب التوصل لصفقة مع "حماس"، وهو ليس موضوع هذا المقال، لكنّ التلميح تكرّر إلى أنّ هذه الصفقة ستكون مُعَزَّزةً ببُعدٍ إقليميّ مفاده توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية بحيث تشمل دولًا جديدة، وذُكرت تحديدًا أسماء لبنان وسوريا والسعودية. وتحاول هذه المقالة كشف منهج الاستخفاف الذي يتناول به الرئيس الأميركي الأمور بما فيها أمور شديدة الجدّية والتعقيد والخطورة، ومن المناسب أن نبدأ قصة التطبيع من أوّلها.

أحلام التطبيع وأوهامه!

بدأ التطبيع الرسمي بين العرب وإسرائيل بمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979، وإن كان التطبيع الخفي قد بدأ قبل ذلك بكثير بالنسبة لدولتَيْن على الأقل، وكانت المحطة التالية في التطبيع الرسمي هي اتفاق أوسلو عام 1993 الذي اعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل مقابل اعتراف الأخيرة بها، وليس بدولةٍ فلسطينيّة. ثم كانت المحطة الثالثة بديهيةً وهي المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية عام 1994، وفيما بعد أسّست قمّة بيروت عام 2002 لأسس التطبيع الرسمي العربي، بموجب مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد السعودية آنذاك، التي أقرّتها القمّة، ونصّت على أنّه في حال استجابة إسرائيل للمطالب العربية التي تتضمّنها المبادرة، فإنّ الدول العربية جمعاء ستقوم بإنهاء الصراع مع إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها.

وبالإضافة لهذه المسارات التي كاد أقدمها أن يبلغ نصف القرن عمرًا، كان هناك مساران آخران أولهما وُئِدَ في مهده، وهو اتفاق 1983 بين لبنان وإسرائيل عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982، والثاني تمثّل في إقامة علاقات ديبلوماسية بين موريتانيا وإسرائيل، وقيل إنّ هذا تمّ بضغوطٍ اقتصاديةٍ قوية، واحتاج الأمر عقدًا من الزمان كي تنقلب موريتانيا عليه استجابةً لقرار قمّة الدوحة التشاورية عقب العدوان على غزّة الذي امتد من أواخر 2008 إلى أوائل 2009، وأهمية المسارَيْن أنّهما يشيران إلى أنّ التطبيع ليس طريقًا ذا اتجاه واحد. ثم مثّل عام 2020 نقلةً نوعيةً في التطبيع الرسمي إذ وقّعت 4 دول عربية ما سُمي بالاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل، في ما اعتُبِر خروجًا على المبادرة العربية لأنّ التطبيع تمّ من دون أدنى استجابةٍ إسرائيليةٍ للمطالب العربية.

ما علاقة صفقة تُنهي القتال في غزّة بتطبيع لبنان وسوريا والسعودية مع إسرائيل؟

نأتي الآن لتصريحات ترامب وتلميحاته بخصوص صفقةٍ تتضمّن توسيعًا لنطاق الاتفاقات الإبراهيمية، وهي تصريحات وتلميحات نموذجيّة للدلالة على الأسلوب العشوائي الذي تُتَّخذ به القرارات في السياسة الأميركية الآن، فما علاقة صفقة تُنهي القتال في غزّة بتطبيع لبنان وسوريا والسعودية مع إسرائيل؟ أللّهم إلّا إذا كانت مكاسب إسرائيل من الصفقة لا تكفيها بحيث نعزّزها بتطبيعٍ على "طبقٍ من ذهب" مع 3 دول عربية بالغة الأهمية، اثنتان منها لمتاخمتهما جغرافيًا لإسرائيل، والثالثة لدورها القيادي العربي والإسلامي.

ولنفرض أنّ ترامب يريد بالفعل إرضاء نتنياهو واسترضاءه كي يوافق على الصفقة، فليس هكذا تورد الإبل، فليست هذه الدول "عرائس ماريونيت" يُمسك بخيوطها ويحرّكها كيفما شاء، وإنّما هي دول لها ظروفها ورؤيتها لأمنها ومتطلّبات هذا الأمن.

فقضية لبنان مع إسرائيل ليست "حزب الله" وإنّما أمن لبنان، وما لم تستجب إسرائيل لمتطلّبات هذا الأمن فتجلو عن كلّ شبرٍ تحتلّه من الأراضي اللبنانية، وتوفّر ضماناتٍ كافيةً له، لأن إسرائيل هي التي تهدّد أمن لبنان وليس العكس، لا يمكن أن يكون هناك تطبيع، هذا بفرض أنّ لبنان مستعدّ لعدم الالتزام بالمبادرة العربية.

هل يجرؤ أي مسؤول سوري على توقيع اتفاقية تطبيع في ظلّ إصرار إسرائيل على أنه لا رجعة في ضمّ الجولان؟

وصحيح أنّ الظروف الداخلية لسوريا في منتهى الصعوبة، وأنّ حكّامها الجدد أعلنوا نواياهم السلمية تجاه الجميع، ولكن هل يتصوّر عاقلٌ أن يُقدم أي مسؤول سوري حالي على توقيع اتفاق تطبيعٍ مع إسرائيل قبل عودتها للالتزام باتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974، وجلائها عن المناطق التي احتلّتها بعد سقوط الأسد، هذا إن لم نتحدّث عن تعويضات عن تدمير القدرات العسكرية السورية؟ والأهم هل يجرؤ أي مسؤول سوري على توقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل في ظلّ إصرار مسؤوليها على أنه لا رجعة في ضمّ الجولان؟ وقد صدر بيان رسمي سوري أشار إلى أنّ الحديث عن اتفاقية سلام مع إسرائيل سابق لأوانه، داعيًا إلى عودة التزام إسرائيل باتفاقية 1974، وانسحابها من المناطق التي توغّلت فيها بعد نقض التزامها بالاتفاقية، وإنْ لوحظ أنّ البيان لم يُشِر للجولان، وأنّه نُسب لمصدرٍ سوريّ مطّلعٍ أنّ هضبة الجولان ستكون "حديقة سلام"!.

قد تؤدّي محاولات تطبيق أفكار ترامب الفجّة إلى مردود معاكس

أمّا السعودية فكيف يتصوّر ترامب ببساطة أنّ الطرف المؤسّس للمبادرة العربية، والذي التزم بها منذ طُرِح احتمال انضمام أطراف أخرى للاتفاقات الإبراهيمية، وكَيَّف موقفه بموجبها، وهو أنه لا تطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية، يمكن أن ينزل بمطالبه إلى حدّ ربط التطبيع بصفقةٍ جزئية؟.

يبدو صعبًا أن يفهم ترامب هذه الاعتبارات، ولذلك فإنّ طريق تنفيذ مبادراته لن يكون مفروشًا بالورود، وقد تؤدّي محاولات تطبيق أفكاره الفجّة إلى مردودٍ معاكسٍ يُذكّرنا بمصير اتفاق عام 1983.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن