نتنياهو يشن حرب إبادة وتطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني في غزّة منذ أكتوبر الماضي، وخلال 90 يومًا، سقط أكثر من 22 ألف شهيد، و57 ألف مصاب، وتم تدمير معظم البنية التحتية لمدن القطاع خصوصًا في الجزء الشمالي، وصولًا لاغتيال إسرائيل صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في قلب معقل "حزب الله" بالضاحية الجنوبية في بيروت.
على السطح يمكن اعتبار اغتيال العاروري ورقة رابحة في يد نتنياهو، يروّج بها أمام الإسرائيليين لانتصاره المزعوم، بعد أيام من الحرب الطويلة التي أحرجت جيش الاحتلال، لكن على ما يبدو أنه يريد ما هو أكثر من رد، فالانتقام الذي يبشّر به أداة يخفي بها أزمته، التي يريد حلّها بتقديم دماء الفلسطينيين على مذبح استمراره في السلطة، لذا فالحرب من وجهة نظره مستمرة ما لم يتعرض لضغوط أمريكية حاسمة.
يسعى نتنياهو بكل قوة من أجل جر الولايات المتحدة إلى المواجهة الموسّعة لأنها تضمن له البقاء في السلطة
نتنياهو فشل في تحقيق انتصار سريع واضح المعالم، بل أثبتت المقاومة قدرتها على الاستمرارية في مواجهة وحشية جيش الاحتلال، وكبّدته خسائر غير مسبوقة، هذا الأمر أصاب رئيس الوزراء الإسرائيلي المتحالف مع أحزاب يمينية شديدة التطرف، بالجنون لأن مجريات الحرب تعني أنّ نهايته السياسية ستكون قاسية وفضائحية.
لذا يسعى مجرم الحرب الإسرائيلي إلى القفز للأمام، ومن هنا خطورة أفعاله، التي تسعى إلى جر المنطقة كلها لحرب إقليمية واسعة، تنطلق من قطاع غزّة وتشمل مواجهة مفتوحة مع إيران ومحورها في البحر الأحمر والخليج، ومن ثمة إلى مختلف الجبهات في المنطقة، لذا يفهم اغتيال العاروري في قلب الضاحية الجنوبية كخطوة يسعى من ورائها إلى المضي في هذا الطريق.
ويعمل نتنياهو بكل قوة من أجل جر الولايات المتحدة إلى تلك المواجهة الموسّعة، لأنه يدرك جيدًا أنها تضمن له البقاء في السلطة، وحماية مستقبله السياسي من نهاية في ساحات المحاكم الداخلية، أو الملاحقات على المستوى الدولي بسبب ملف الانتهاكات غير المسبوقة في ملف الحرب على غزّة، لكن حتى الآن تبدو واشنطن متمسكة بألا تخرج الحرب عن قطاع غزّة، وهنا نفهم ضغوط نتنياهو وعصابته على الإدارة الأمريكية لجرها لساحة حرب إقليمية.
يضاف إلى ذلك ملف الفساد الذي يطارد نتنياهو، والذي يتذرع الآن بالحرب على غزّة من أجل تأجيل محاكمته، إذ يواجه اتهامات بتلقي رشا والاحتيال وخيانة الثقة، وهي محاكمة بدأت في العام 2020، ويبدو أنه سيتمكن من مد أمد جلساتها بسبب الحرب، وإذا تحوّلت إلى مواجهة إقليمية شاملة فلا صوت سيعلو في تل أبيب فوق صوت المعركة.
لذلك كله، فنحن أمام رجل لا يفكر إلا في نفسه، وحمايتها من النهاية الوشيكة، لذا لا غرابة في أن يلجأ إلى خيار "شمشون" بجر المنطقة كلّها إلى حرب واسعة متعددة الجبهات، فبالدم وحده يضمن نتنياهو البقاء في السلطة، وهو غير مشغول بطرح أي تصور لماهية الوضع بعد انتهاء حرب غزّة، لأنه أساسًا يفترض أنّ بعدها حروبًا، وهذه الفكرة هي الوحيدة في أجندته السياسية.
لن يحصل على انتقامه أبدًا إلا لو وجد فيه وسيلة يتفادى بها السقوط السياسي
ولا يمكن التفكير في الوصول إلى تهدئة أو وقف لإطلاق النار، طالما ظل هذا الرجل في السلطة، بل الأخطر أنّ استمراره في الحكم يعني أنّ محاولات إشعال حرب إقليمية موسّعة لا تزال قائمة وتزيد، وهنا يجب على الدبلوماسية العربية أن تضع في اعتبارها هذه الحقيقة الواضحة عند اقتراح أي مقاربة لإنهاء الحرب في غزّة، وكذلك على المجتمع الدولي أن يعي هذا الواقع عند الحديث عن أي وقف لإطلاق النار، فالحقيقة التي يجب أن يتعامل معها الجميع أنه في اليوم الذي سيغادر فيه نتنياهو منصبه ستتوقف الحرب.
نحن أمام رجل على أعتاب الجنون، يبحث بكل وسيلة ممكنة عن النجاة الذاتية، ووجد في حرب غزّة ضالته للتشبث بالسلطة، لذا يروّج لانتقام بلا سقف ولا هدف، ليخفي نية حقيقية في استمرار الحرب الوحشية التي يريد بها أن يحشد الموقف الداخلي خلف قيادته، حتى ينجو سياسيًا من أي ملاحقة، في هذه الحالة لن يحصل نتنياهو على انتقامه أبدًا، إلا لو وجد فيه وسيلة يتفادى بها السقوط السياسي، وهذا صعب في ضوء الأداء البطولي للمقاومة الفلسطينية التي ضيّقت الخناق على نتنياهو، الذي لا يمتلك الآن إلا محاولة جر المنطقة لحرب إقليمية، وإلا فإنّ حبل الإعدام السياسي سيلف حول رقبته.
(خاص "عروبة 22")