تقدير موقف

السلطة العربية تستثمر حرب غزّة: تهميش المعارضة وإفقار الفقراء!

إحدى المشكلات التي تعاني منها قوى المعارضة هي إعادة إنتاجها لمقولاتٍ في علاقة السلطويّة العربية بشعوبها من دون اهتمام كبير بتغيّر الأزمان وتغيّر طبيعة نخبة الحكم. ومن تلك المقولات إنّ الأنظمة السياسية إذا واجهت تحدّيات جيوسياسية كتلك التي واجهتها بعض النّظم العربية بعد حرب غزّة، فإنّها ستلجأ في السياسة الخارجية أولًا إلى مصالحة شعوبها وامتصاص غضبها بمواقف أكثر جرأةً في نصرة الشعب الفلسطيني، وتلجأ في السياسة الداخلية إلى إجراءاتٍ لتخفيف معاناة الأغلبية الشعبية من التضخّم والغلاء، وإلى زيادة هامش الحريّات في المجال العام وتخفيف الاحتقان مع المعارضة لبناء جبهةٍ وطنيةٍ في مواجهة التحدّيات الخارجية.

السلطة العربية تستثمر حرب غزّة: تهميش المعارضة وإفقار الفقراء!

كان مثيرًا للحزن أن تُضبطَ هذه المعارَضة متلبسةً أكثر من مرة وفي غير بلدٍ عربيّ، وهي مُحرجة ومهزومة فكريًا أمام جمهورها "وحالها يصعب على الكافر"، وهي ترى مقولاتها العامّة تفشل على أرض الواقع، فتضرب كفًّا على كفّ من الاندهاش من تجاهل النظام نصائحها برصّ الجبهة الداخلية بدلًا من تمزيقها. إذ بدلًا من أن تقوم الحكومات بتوسيع وهم المعارضة المُسمّى "الحيّز المُتاح"، حاصرت هذا الحيّز فكانت هذه المعارضة تصحو كلّ يوم على إجراءٍ أو قانونٍ تمرّره هذه الحكومة أو تلك يرفع حدّة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي ويزيد من توتّر العلاقة بين النظام وأغلبية مواطنيه.

في السياسة الأمنية تُصبح أهم وسائل السلطة صنع الأزمات لمعرفة حجم قوتها وحجم قوة الآخرين

يمكن القول وبضمير مستريح إنّ النظم العربية استغلّت الانغماس الشعبي العربي بكلّ جوارحه في مأساة غزّة، في زيادة سلطويّتها وتهميش المعارضة وتمرير سياسات لا تتمتّع بأيّ شعبية كانت تتهيّب في الماضي من مجرّد التجرّؤ على اقتحامها.

ما هو التفسير الذي جعل مقولةً سياسيةً عامةً صحيحةً تنهزم أمام النسخة الحالية للسلطة العربية؟

- تراجُع مفهوم الدولة أمام مفهوم النظام، فعلى عكس المبدأ السائد في الخطاب الرسمي عن ضرورة إعطاء الأولوية لحماية الدولة الوطنية التي مُزّقت إربًا في 6 دول عربية، وهو مبدأ سليم، فإنّ السلوك الفعلي هو سلوك الحفاظ على النظام وليس الدولة الوطنية، باختصار هو سلوك "احييني النهارده وموّتني بكرة". وعندما تتعارض مصلحة الدولة مع مصلحة النظام السياسي في البقاء أو مصلحة الطبقة الحاكمة في المزيد من الاغتناء، يتمّ تفضيل مصلحة النظام والطبقة.

- تراجع مكوّن السياسة في النظام لصالح المكوّن الأمني: قبل مرحلة "ارتدادات الربيع العربي" الراهنة كانت السياسة مكوّنًا مُوازنًا للمكوّن الأمني. كان الأمن حاضرًا في دائرة صنع القرار باستمرار، لكنّه كان رأيًا ضمن آراء يغلب مرةً وتغلبه السياسة مرّات. في مرحلة الارتداد الحالية، غابت السياسة تحت ضغط جناح الأمن التقليدي الذي أصبحت حجّته، نحن من نحمي النظام ولا داعي للمغامرة بفسحةٍ للمعارضة والمجتمع النقابي قد تجعل النظم تواجه انتفاضات العام 2011 مرة أخرى.

شهدت شهور ما بعد حرب غزّة تصاعدًا في التضييق السياسي

- طغيان المكوّن الأمني قاد إلى اختفاء "مجسّات" السياسة المعروفة، فكما أنّ المعارك هي وسيلة الجيوش لاختبار قوتها وقوة الخصم، ففي السياسة الأمنية تُصبح أهم وسائل السلطة هي صنع الأزمات بمدّ الخط على استقامته في الكبت والتضييق لمعرفة حجم قوتها وحجم قوة الآخرين. ولا يوجد هنا أمامها من طرق، إلّا تجربة قوة سلطتها على المعارضة والفئات الاجتماعية الضعيفة إلى أبعد مدى ممكن. فإنْ وُجدت المعارضة وهذه الفئات مشلولةً من الخوف أو تسيطر على قرارها قيادات تميل لعقد الصفقات، زادت من هذا الضغط لينتزع النظام القائم أرضًا جديدةً ويثبت قوائم حكمه ويتشجّع على المضي بكلّ الوسائل القانونية لإطالة عمره. في الـ23 شهرًا، لم تجدْ السلطة العربية سوى الوجه الضعيف، وتكفّل السجن أو الحظر الإعلامي السياسي بإعاقة القيادات المعارضة عن تحريك الشارع. لهذا توسّعت السلطة العربية في خلق أزمات اجتماعية وثقافية ودينية وشجعت فيها إعلاميين على عمل بالونات اختبار لكي تعرف هل تتقدّم بمزيدٍ من السلطويّة في السياسة ومزيد من المنافع للطبقة الحاكمة النيوليبيرالية أم تتباطأ وتؤجّل، وكانت الردود الضعيفة رسالةً صريحةً للتقدّم وإحكام قبضة السلطة من جهة، وإفقار الفقراء من جهةٍ أخرى.

الأدلّة كثيرة على تغوّل السلطويّة العربية وتجاهلها للمشاعر الشعبية الرافضة لمقتلة غزّة خارجيًا والرافضة لحالة الغلاء والتضخّم التي قضت على سترهم وكفافهم داخليًا: شهدت شهور ما بعد حرب غزّة تصاعدًا في حالة التضييق السياسي فجرى كبح الاحتجاجات الشعبية المُعادية لأميركا وإسرائيل، التي طالبت بموقفٍ عربيّ يتجاوز الموقف الهزيل القائم. وفي غير بلدٍ عربيّ، ما زال يقبع في السجون شباب تظاهر من أجل فلسطين منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. أنظمة أخرى تشجّعت بالدعم الأميركي، فقامت بحظر جماعات سياسية ودينية ارتبطت تاريخيًا بعلاقاتٍ وشيجةٍ بهذه النظم. وجرت هندسة الانتخابات في أقبية الأمن لحرمان المعارضة الجادّة من المنافسة، وجرى إضعاف المجتمع المدني وتحدّي النقابات العمالية والمهنية بقوانين جديدة تكرّس الانحياز للرأسماليين أصحاب العمل على حساب العمال.

البيروقراطية الحاكمة استغلّت غبار الحرب وانغماس الناس فيها ومارست سياسة "صدمات قاسية"

إذا كانت النّظم في سياساتها الخارجية فضّلت تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل على التجاوب مع غضب شعوبها، فزادت تجارتها ووقّعت اتفاقيات تسليح وطاقة جديدة مع كليهما، فإنّ البيروقراطية الحاكمة على المستوى الداخلي استغلّت غبار الحرب وانغماس الناس فيها، ومارست سياسة "صدماتٍ قاسيةٍ" وصلت أخطار بعضها إلى تحذيرات من داخل الأنظمة نفسها، بأنّها قد تُهدّد بحربٍ أهليةٍ في المستقبل. فجرى رفع أسعار المحروقات والمواد الغذائية والخضوع لشروط "صندوق النقد الدولي" في الخصخصة وتمرير قوانين تهدّد السلم الاجتماعي في علاقات الملكية بين المؤجّرين والمستأجرين. وتكشف كل البيانات المُتاحة من مصادر محلية أو دولية أنّ معدلات الفقر قد زادت في فترة الحرب، بينما ارتفعت ثروات القلّة الغنيّة إلى مستوياتٍ خرافيةٍ فضحتها قوائم "فوربس السنوية للشرق الأوسط"!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن