حاز نيتانياهو قصب السبق في تبنى أطروحة السلام بالقوة، أو السلام مقابل السلام، واعتماد القوة كأقصر الطرق لتحقيق السلام؛ وذلك عبر استثمار القوة في فرض مطالب إسرائيل؛ تحقيق هدف إسرائيل الكبرى وطمس حقوق الشعب الفلسطيني في الدولة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية، يتجلى ذلك من الحرب على غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا وأخيرا وليس آخرا في إيران.
ثم جاء دونالد ترامب ليؤكد هو الآخر أن السلام لا يتحقق إلا بالقوة، وشارك بالتخطيط والصمت والتواطؤ وإمداد إسرائيل باحتياجاتها اللوجستية من الصواريخ والمعدات والذخائر، وتعزيز الشبكة الدفاعية المضادة للصواريخ في الحرب على إيران في الثالث عشر من يونيو التي بدأتها إسرائيل، وأنهتها الولايات المتحدة الأمريكية بضرب المفاعلات النووية في نطنز وأصفهان وفوردو بأم القنابل!.
ما يلفت النظر في تصريحات ترامب ووزير دفاعه استخدام لفظ "العظيم والرائع" لوصف هذه الضربات، وكذلك الطائرات التي قامت بهذا العمل العدواني المخالف للقانون الدولي ومعاهدة حظر الانتشار النووي، التي وقعت عليها إيران. تفكير غريب وخارج النواميس المعتادة والطبيعية بل وخارج المألوف من الفطرة الإنسانية التي تزكي العمران والبناء والازدهار؛ غير أن زمن ترامب – نيتانياهو هو بذاته خارج عن المألوف والمعتاد بالنسبة للأعراف والتقاليد أو بالنسبة للقانون الدولي بشتى فروعه ومجالاته.
منذ عدة عقود وإسرائيل تتوعد المقاومة بالقضاء عليها وتصفية كافة معاقلها، ولكنها لم ولن تتحقق لها هذه الأهداف التي وضعتها نصب أعينها؛ ذلك أن جميع معاركها ضد المقاومة انتهت إلى نتائج ملتبسة؛ أي لا تسوغ الانتصار لإسرائيل، بل يستطيع كل طرف الزعم بأنه انتصر، وذلك لأن البيئة الاستراتيجية قد تغيرت، حيث لم تعد الحروب حروبا نظامية بين الدول العربية وإسرائيل، بل بينها وبين جماعات مقاومة وفاعلين جدد خارج سيطرة الدول، في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد المقاومة في غزة، 2008، 2012، 2014، 2020، 2021 وحتى 2023، لم يتحقق هدف إسرائيل في إسكات صوت المقاومة أو الإجهاز عليها وكذلك الأمر فيما يتعلق بحرب لبنان عام 2006 ضد "حزب الله".
وحتى بافتراض تنفيذ الصفقة الجارية الآن رغم عدم وضوح بعض بنودها، خاصة فيما يتعلق بالانسحاب أو إنهاء الحرب على غزة، أو ما تعلق بنزع سلاح المقاومة أو رحيلها، فإن ذلك لن يعني بالضرورة انتصارا لإسرائيل؛ ذلك أن المقاومة لم تبدأ مع "حماس" والجهاد ومن الطبيعي ألا تنتهي بافتراض انتهاء هذه المنظمات، فالمقاومة الفلسطينية مستمرة منذ ما يفوق القرن للصهيونية والاستيطان والدفاع عن الأقصى، وكافة منظمات المقاومة ما هي إلا حلقات ومحطات في إطار الإرادة الشعبية الفلسطينية والتي ما إن تتعرض لانتكاسة، حتى يعقبها نهوض وقد شهدنا ذلك مرارا وتكرارا في مسيرة النضال الفلسطينى الباسل والمتواصل، طالما بقى الاحتلال وأصرت إسرائيل على التنكر للحقوق الفلسطينية فى الدولة والقدس.
فإن ذلك بحد ذاته بمثابة إعلان عن استمرار المقاومة بأشكال وأدوات أخرى، لا يدري أحد متى وأين ولكنه آت وسوف يأتي مادام الاحتلال باقيا. النكبة الفلسطينية الحالية منذ حرب الإبادة المستمرة حتى الآن تختلف عن سابقاتها، لأنها مرئية وموثقة بكافة تفاصيلها، وتشهد عليها الوثائق والتصريحات وشهود العيان، الذين كتبت لهم النجاة منها وهذه وتلك من الوثائق والشواهد بعهدة منظمات فلسطينية وحقوقية دولية وسيأتي يوم تستقيم فيه العدالة الدولية وتتخلص من قيودها للنظر فيها وإصدار أحكامها وهذا لا يمنع من النظر فيها الآن بصرف النظر عن إمكانية تطبيق الأحكام.
ولأن النكبة الحالية موثقة ومسجلة، فهي بالتأكيد ستخلق أجيالا من المقاومين الفلسطينيين للثأر لذويهم والانتقام من قاتليهم؛ خاصة أن كافة الخطط التي يتم التفكير فيها أو تلك الخطط الجاهزة تغيب عنها حقوق الشعب الفلسطيني، كما هي معروفة دوليا وموثقة بالقرارات الدولية والقانون الدولي، فهى خطط معدة لتحقيق مصالح إسرائيل، وتوفير الأمن لها وتحصينها ضد القانون الدولي والعدالة الدولية، بينما تحظى حقوق الشعب الفلسطيني بالتحايل والمراوغة والوعود الفارغة التي لم يثبت يوما أنها صادقة ولم تثبت نية المجتمع الدولي في تنفيذها أو حتى ممارسة الضغوط على إسرائيل للشروع في تنفيذها وقبولها، وأقصد وعود الولايات المتحدة والغرب لأن جزءا كبيرا من المجتمع الدولي بل أغلبيته تناصر وتؤيد حقوق الشعب الفلسطيني.
القوة التي تستخدمها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أثبتت حدودها القصوى، وظهرت نتائجها واضحة للعيان؛ حيث عجزت إسرائيل طوال ما يقرب العامين عن تحرير الرهائن لدى المقاومة أو أن تجبر المقاومة على رفع الراية البيضاء، كما أن هذه القوة في مواجهة إيران لم تفعل إلا أن تتفاقم المضاعفات وتكشف هشاشة إسرائيل وقدرة إيران على ضرب العمق الإسرائيلي، وانتهاء حصانتها الداخلية التي تصورت إسرائيل أنها تستعصي على النيل منها بل واكتشفت إسرائيل أوهام الهيمنة.
(الأهرام المصرية)