على الرَّغم من الصحة الجزئيّة لبعض هذه الانتقادات، ولكن يجب ملاحظة أنّ الدولة الحديثة متنوّعةٌ اجتماعيًا ومتفاوتةٌ طبقيًا بطبيعتها، وهذا قد يكون حتميةً تاريخيّةً يجب تخفيفها وعدم الاستسلام لها. ولكن حتى في دولةٍ مثل الصين يحكمها حزب شيوعي وتتبنّى اقتصادًا قائمًا على الإنتاج ولا سيما الصناعي، فإنّ فيها إقليمًا مثل "ماكاو" يعتمد اقتصاده على السياحة المُترفة المُستفزّة اجتماعيّا.
البديل عن الأموال التي يضخّها الأثرياء المصريون في الساحل الشمالي هو أن تذهب هذه الأموال إلى اليونان أو تركيا أو دبي
وفي دولةٍ ديموقراطيةٍ مثل بريطانيا، فإنّها كانت تشجّع على هجرة الأثرياء من ثقافاتٍ بعيدةٍ مثل روسيا والعالم العربي عبر إعفاءاتٍ ضريبيةٍ (بدأت تتراجع عنها) حيث يعيش هؤلاء الأثرياء الغرباء في أحياء شبه مغلقة تبدو كالغيتوات بنمط حياةٍ باذخٍ مستفزٍّ للطبقتَيْن الوسطى والعاملة البريطانيتَيْن، ولكنّ الحكومات شجّعت على ذلك لأنّهم يجلبون مليارات الدولارات إلى الاقتصاد ويمكّنونه من النموّ بعدما فقد جزءًا كبيرًا من تنافسيّته الصناعية، ويحافظون على مكانة لندن كمركزٍ ماليّ عالميّ على الرَّغم من خسرانها لإمبراطوريتها.
وينسى المنتقدون أنّ البديل عن الأموال التي يضخّها الأثرياء المصريون في الساحل الشمالي، هو أن تذهب هذه الأموال إلى اليونان أو تركيا أو دبي، وأنّه لا يمكن وأد نزوع الأثرياء إلى الاستثمار العقاري المصحوب بالترف أحيانًا، ولكن يمكن استيعابه ولو جزئيًا بالاقتصاد المحلي وتخفيف فجاجته في إطار القوانين الوطنية.
وهناك مبالغة أحيانًا في تقدير حجم مظاهر البذخ الاجتماعي والمادي في الساحل، فأغلب الوحدات في الساحل يملكها ويستأجرها مصريون من الطبقة الوسطى لا تختلف سلوكيّاتهم الاقتصادية والاجتماعية كثيرًا عن أسلافهم الذين كانوا يقضون الصيف في الإسكندرية قبل عقود. والقرى المستفزّة في أسعارها ومظاهر العيش فيها تُعدّ على أصابع اليد؛ كما يظلّ القانون وليس توجّهات بعض قطاعات الرأي العام هو الضابط للسلوك في أي مكان في الدولة الحديثة.
ولكن هذا لا ينفي الحاجة إلى تطوير مقاربة الساحل الشمالي لتصبح أكثر شموليةً وإنتاجيةً وقبولًا اجتماعيًا، وهو ما بدأته إلى حدٍّ كبيرٍ الحكومة المصرية بالفعل.
يمكن تحويل الساحل الشمالي إلى منطقة استثمار للنقل والسياحة الدولية والزراعة والصناعة والتعليم
وبادئ ذي بدء، فإنّ الساحل الشمالي واحد من أهم المناطق النائية التي تمّ إعمارها في مصر في تاريخها الحديث، ولا يتفوّق عليه سوى المدن الجديدة المجاورة للوادي ومدن قناة السويس التي بدأ إعمارها في نهاية القرن التاسع عشر، وكلاهما من أعلى مناطق مصر حاليًا إنتاجيةً ودخلًا وتنظيما.
ولكن الساحل الشمالي يختلف في ضعف طابعه الإنتاجي وموسميّته وفوارقه الاجتماعية.
إنّ الموقع الفريد للساحل الشمالي المصري المطلّ على البحر المتوسط بطقسه المعتدل وشواطئه الخلابة وقربه من القاهرة والإسكندرية وقناة السويس والبحر الأحمر، يمكن أن يجعله واجهةً حضاريةً واقتصاديةً للمشرق العربي برمّته على المتوسط قبالة أوروبا.
إذ يمكن تحويل الساحل الشمالي من منطقة جذبٍ للسياحة الداخلية فقط، إلى منطقة استثمارٍ للنقل والسياحة الدولية والزراعة والصناعة والتعليم مع جذب استثماراتٍ محلّيةٍ وعربيةٍ ودوليةٍ، وهو ما بدأ يتحقّق إثر الصفقة الإماراتية في رأس الحكمة.
يحتاج ذلك إلى استراتيجيةٍ تكامليّةٍ، فعلى سبيل المثال يمكن توظيف البنية الأساسية المخصّصة للسياحة في خدمة الصناعة والزراعة عبر التوسّع في توليد الكهرباء خاصةً من الطاقة الشمسية ومحطة "الضبعة" النووية مستقبلًا، بحيث تُباع الكهرباء بسعرٍ أعلى للمنشآت السياحية وبسعرٍ أقلّ للمنشآت الزراعية والصناعية لا سيما المتوسطة والصغيرة، مع إنشاء مناطق حرّةٍ صناعيةٍ وزراعيةٍ في ظهير الساحل الشمالي.
مناخ الساحل الشمالي صالح لزراعة الفواكه والقمح والشعير ويمكن إنشاء جامعات ذات طابع دولي للطلاب العرب والمصريين
ويمكن للمنشآت الصناعية الاستفادة من قربها من المدن السياحية المزدهرة مثل "العلَمَيْن الجديدة" أو تلك المزمع إنشاؤها في رأس الحكمة وغيرها، لتصبح الأخيرة مراكز مالية وإدارية للشركات الصناعية وأماكن جاذبة لسكن المهندسين والإداريين الأجانب والمصريين العاملين في هذه المصانع، وكذلك بناء موانئ للتصدير منها وهناك مؤشرات إلى توجّه حكومي لذلك.
وفي الزراعة، يمكن التوسّع في تحلية مياه البحر، وبالأخص اعتمادًا على الطاقة الشمسية، بحيث تُباع هذه المياه بأسعارٍ مربحةٍ إلى المنشآت السياحية، على أن تُقدّم مدعومةً إلى المُزارع مع التشجيع على الاعتماد في الشتاء على مياه الأمطار الأوفر نسبيًا مقارنة بباقي مناطق مصر.
ومناخ الساحل الشمالي المصري المُعتدل صالح لزراعة الفواكه والقمح والشعير، ويمكن أن تتحوّل مزارع هذه المحاصيل إلى عامل جذب سياحي إضافي.
هذا المنهج التكاملي قابل للتطبيق في السياحة والتعليم عبر إنشاء جامعات ذات طابع دولي للطلاب العرب والمصريين مع إمكانيّة تحويل القرى السياحية المهجورة شتاءً إلى سكنٍ لهم.
ويجب تشجيع التحوّل من القرى السياحية المُغلقة إلى المدن السياحية المفتوحة التي تجمع بين طابع المنتجعات الفاخرة وبين المدن المُعوْلمة، مع تأكيد الطابع المحلّي المصري الجذّاب بطبيعته للكثير من العرب والأجانب وحتّى للكثير من أبناء الطبقات الثرية المصرية خاصةً أنّ السياحة بطبيعتها تزداد جاذبيّتها بتأكيدها للهوية المحلّية حتى بطبعاتها الشعبيّة طالما كانت العملية منظمةً وتؤكّد على الجوانب الإيجابية المميّزة للثقافة الوطنية.
ولقد بدأت مدينة "العلَمَيْن الجديدة" التي أسّستها الحكومة تتحوّل إلى هذا النمط وتخطو نحو أن تصبح "دبي جديدة" بطابع مصري حديث على المتوسط وعاصمةً للساحل الشمالي، مع ظهور مؤشرات إلى تحوّلها لمدينة سكنية وإدارية متطوّرة.
المجتمعات تتقدّم بتشبيك المصالح وقبول الآخر واحترام التنوّع والفروق وليس تصارعها
وهناك حاجة أيضًا للتوسّع غربًا تجاه المناطق البكر في مرسى مطروح والسلوم، ومن الواضح أنّ الحكومة المصرية تتّجه إلى هذه المقاربة بما في ذلك السعي لضبط النظام الضريبي في المنطقة. كما أفاد تقرير لموقع "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ" بأنّ مصر تخطّط لإنشاء مدينة جديدة على مساحة 110 آلاف فدان غرب رأس الحكمة، ضمن مقاربة أوسع لتحويل الساحل إلى محورٍ تنمويّ يخلق 1.5 مليون وظيفة، وسط دلائل عن أنّ المنطقة أصبحت وجهةً مفضّلةً للاستثمار الخليجي، وتحوّل مصر عامةً إلى مقصدٍ رئيسيّ لمشتريات الأثرياء الخليجيين للمسكن الثاني.
إنّ موقع ومناخ الساحل الشمالي يُتيحان فرصةً ذهبيةً لتحويله إلى منطقة عمرانية واسعة تجذب السياحة والاستثمارات الدولية، وكذلك هجرة محلية كبيرة مع ضرورة السعي للتقريب بين السياح والعاملين من الأجانب والعرب والمصريين من أبناء الوادي ومحافظة مطروح. وهذا يتطلّب خلق شبكة مصالح تربط كلّ الأطراف وتوضيح منافع هذه المصالح مع الاهتمام بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة، فالمجتمعات تتقدّم بتشبيك المصالح وقبول الآخر واحترام التنوّع والفروق وليس تصارعها.. ومصر تاريخيًا مجتمع ينحو لإذابة الفروق.
(خاص "عروبة 22")

