بصمات

عن عبد الناصر وتجربته (2/2)

إنّ سياسات عبد الناصر المصرية تبقى هي الأساس في تقييم تجربته. لقد أراد أن تكون مصر قويةً في سياساتها وحضورها العربي والدولي، وقد حقّق ذلك. وقد أراد أن تكون مصر بلدًا رائدًا في القوة الاقتصادية فبنى مئات المصانع، وبنى لمصر السدّ العالي الذي نظّم الحياة الزراعية ووفّر لمصر طاقةً كهربائيةً خلال عقود تالية. لكنّ سياسات الإصلاح الزراعي، التي جاءت بعد أشهر قليلة على الثورة، والتي كانت مطلبًا للعديد من السياسيين في الأربعينيّات، أتت متسرّعةً بغرض كسب ولاء الفلاحين الذين كانوا يعانون من تعسّف أصحاب الملكيات الكبيرة. وقد هدف الإصلاح الزراعي إلى ضرب الأُسُس التي يستند إليها أغلب الطبقة السياسية من أصحاب الملكيات الكبيرة.

عن عبد الناصر وتجربته (2/2)

حرص نظام عبد الناصر على توسيع قاعدة التعليم المجّاني فتقلّصت نسب الأميّة، إلّا أنّ سياسة توظيف الخرّيجين أدّت وما زالت تؤدي إلى تضخّم جهاز الدولة قليل الإنتاجية.

أمّا خيار الاشتراكية، وإذابة الفوارق بين الطبقات، وما نتج عن ذلك من تأميمٍ للمصانع والمرافق الإنتاجية، فكان أقرب إلى المصادرة والإجراءات الانتقامية. ولم يُؤَدِّ ذلك إلى إذابة الفوارق بين الطبقات، ولم يُؤَدِّ إلى تحوّل مصر إلى بلد إنتاجٍ صناعيّ، ولم يُؤَدِّ إلى تخطّي مصر حاجز البلدان النامية إلى البلدان الصناعية، خصوصًا أنّ سياسة التقشّف لتوفير "العملة الصعبة" حسب تعبير تلك المرحلة، أدّى إلى فقدان مواد أساسية، وجعلت غالبية السكان على حافّة "العازة". وفي جميع الأحوال، فإنّ الخيار الاشتراكي أثبت في نهاية المطاف عجزه عن مجاراة ومنافسة الأنظمة الرأسمالية. والاتحاد السوفياتي نفسه، على الرَّغم من اعتماده سياسة التصنيع، لم يستطع أن يُصدّر سلعةً واحدةً منافسةً للإنتاج الغربي.

قيّد نظام عبد الناصر الحريات الحزبية والصحافية والفكرية وأصبحت أجهزة الأمن هي التي تتحكّم بالحياة العامة

كلّ ذلك قابل للنقاش، ولكنّ المسألة الكبرى التي ينبغي بسطها والتركيز عليها هي طبيعة النظام الناصري. ومنذ البداية أيّ في الأشهر الأولى لنظام يوليو/تموز، ألغى مجلس قيادة الثورة الأحزاب كلّها وأبقى على جماعة "الإخوان المسلمين" باعتبارها جماعةً دعويةً وليست سياسيةً، ثم الإطاحة بها وإعدام بعض قادتها، بعد محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1955. وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين الخصم أو العدوّ الأول للنظام. وكان عبد الناصر إزاء الدعوات لإعادة الديموقراطية قد دبّر ما يشبه الانقلاب على دعاتها داخل مجلس قيادة الثورة وخارجه. وجاء العدوان الثلاثي ليكرّس عبد الناصر زعيمًا مُطلقًا.

قيّد نظام عبد الناصر الحريات الحزبية والصحافية والفكرية، وزجّ "الإخوان المسلمين" والمُعارضين في السجون وأصبحت أجهزة الأمن (المخابرات) هي التي تتحكّم بالحياة العامة، بعد أن أُلغيت السياسة عمليًا. لأنّ السياسة تعني الرأي والرأي الآخر وتعني تداوُل السلطة. فأنتج عبد الناصر الاستفتاءات ونتائجها 99.99% بدل الانتخابات التي تتنافس من خلالها الأحزاب والآراء.

صحيح أنّ الممارسات إزاء الأحزاب قبل ثورة يوليو/تموز لم تكن مثاليةً، وقد شابتها أخطاء كبيرة، لكنّ التجربة الديموقراطية في مصر لم يكن قد مضى عليها سوى ثلاثة عقود تخلّلتها حرب عالمية ونفوذ إنكليزي وضعف سلطة الملك، إلّا أنّ هذا النظام كان يسمح بالتداول وحرية الرأي وانتقاد السلطة الحاكمة. لقد ضخّم نظام يوليو/تموز أخطاء النظام الملكي من أجل تسويغ إلغاء الديموقراطية والأحزاب، وإقامة نظام طبقة ضيقة ذات أصول عسكرية.

هذا النظام الذي لا يقبل بأيّ رأي مخالف، قيّد الصحافة وجعل الصحف والمجلات مؤسّسات حكومية، يُعيّن رؤساء تحريرها ومجالس إدارتها. صحيح أن عبد الناصر قد عاش في عصر عباس محمود العقّاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، إلّا أنّ النظام لم يكن يسمح بأيّ رأي لا يتّسق مع خطاب السلطة. وتحوّل المثقّفون إلى موظفين يتقاضون رواتبهم من مؤسّساتٍ تُشرف عليها الحكومة وأجهزة الأمن.

هزيمة يونيو كانت هزيمة نظام بأكمله أخفق في خياراته الاشتراكية وفي خياراته السلطوية

أصبح نظام عبد الناصر نموذجًا لأنظمةٍ في بلدان المشرق والمغرب كما هو معلوم. وعلى الرَّغم من مضي خمس وخمسين سنة على وفاة عبد الناصر، إلّا أنّ أُسُس هذا النظام لا تزال راسخةً لا تتزعزع.

من هنا يمكننا القول إنّ هزيمة يونيو/حزيران لم تكن مجرّد هزيمة في معركة، ولكنّها هزيمة نظامٍ بأكمله أخفق في خياراته الاشتراكية وفي خياراته السلطوية. فكان الحفاظ على النظام، والخشية من انقلاب عسكري، أساس التعامل مع مؤسّسة الجيش الذي سقط قائده سقوطًا مدويًا.

في 9 و10 يونيو/حزيران 1967، خرج المصريون وخرج العرب في كلّ بلدانهم يرفضون استقالة عبد الناصر، كانوا يعبّرون عن رفضهم لتنحّي الرمز الذي مثّل الشجاعة في مواجهة التحدّيات والتمسّك بشخصٍ مثّل النزاهة الشخصية. لكنّهم لم يتظاهروا من أجل رجل السلطة التي لم نكن نعرف حقيقتها إلّا بعد غيابه.

بقي عبد الناصر رمزًا بالنسبة لمُعاصريه، أمّا الأجيال اللاحقة فقد عانت من أنظمة مستبدّين غيّبت ذكرى عبد الناصر وتجربته.

في زيارة أحد السياسيين، سألني إذا كان لدينا الوقت لزيارة ضريح عبد الناصر. توجّهنا إلى مسجد عبد الناصر حيث الضريح ولم يكن هناك سوى الحارس. وبعد أن قرأنا الفاتحة، سُئلنا: من أين الإخوان؟ قلنا من لبنان. قال لا يأتي لزيارته سوى لبنانيين!.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن