تقدير موقف

"اللّاهوت" الذي صنع إسرائيل... من سكوفيلد إلى ترامب!

في واحدةٍ من أكثر اللحظات رمزيةً في التاريخ السياسي الأميركي الحديث، ظهر مقطعٌ مُصوَّرٌ للرئيس دونالد ترامب داخل المكتب البيضاوي، تحيط به مجموعة من القساوسة الإنجيليين وقد مَدّوا أيديهم فوق كتفَيْه وأغمضوا أعينهم في خشوعٍ وتَبَتُّلٍ، يتلون دعاءً حارًّا بأن يُبارك الرب قيادته ويطلبون من الرب أن يهديه ويقوده لتنفيذ مشيئته على الأرض، وأن يحفظ إسرائيل وينصرها على أعدائها. لم يكن ذلك المشهد في البيت الأبيض طقسًا من طقوس الكنيسة، بل كان خُلاصة قرنٍ كاملٍ من تزاوج اللّاهوت بالسياسة، ومن تحوّل النبوءة إلى أداةٍ لتوجيه القرار الأميركي في الشرق الأوسط.

لم يكن أولئك القساوسة يقرأون صلاةً عابرةً، ولا كانوا يؤدّون طقسًا روحانيًّا عابرًا، بل كانوا يُجدّدون ميثاقًا عمره أكثر من قرن بين الإيمان والسلاح، بين الإنجيل والدولة، بين لاهوتٍ خرج من هوامش تفسيرٍ قديمٍ للكتاب المقدس، وبين سياسةٍ صاغت وجه العالم الحديث على مقاس ذلك اللّاهوت.

رمزيّة المشهد تحمل في طيّاتها تاريخًا يزيد عن ثلاثة قرون من الزمن الأميركي، فمنذ البدايات الأولى لتكوّن الوعي الأميركي، وُلدت في ضمير المهاجرين الأوائل "البيوريتان" الذين غادروا أوروبا في القرن السابع عشر، فكرة "الشعب المختار" الذي هجر "أوروبا الفاسدة" إلى أرض الميعاد الجديدة أميركا.

القسّ الأميركي سكوفيلد جعل قيام إسرائيل في فلسطين وعدًا إلهيًا

حملوا معهم رؤيةً دينيةً للتاريخ تقول إنّ لله خطة محكمة تُدير مصائر الأمم، وإنّهم أداة هذا الاختيار الإلهي لإقامة مملكته الثانية على الأرض الجديدة. هكذا تحوّل الوعد الإلهي إلى خريطةٍ سياسيةٍ تُقرأ فيها حركة التاريخ ويُستدلّ بها على الطريق، حتى غدا الإيمان الأميركي منذ لحظته الأولى مزيجًا فريدًا من العقيدة والرسالة والقدر.

قبل "وعد بلفور" الشهير بثماني سنوات، كان القسّ الأميركي سايروس آي. سكوفيلد (Cyrus Ingerson Scofield) قد مهّد لذلك "الوعد"، وجعل قيام إسرائيل في فلسطين وعدًا إلهيًا لا مشروعًا سياسيًا، حين أصدر عام 1909 تفسيرَه الشهير للإنجيل المعروف بـ"إنجيل سكوفيلد".

لم يكن كتابًا عاديًا، بل تفسيرًا لاهوتيًا للنص المقدّس جعله أشبه بدستورٍ سياسيّ جديد. أضاف سكوفيلد في هوامشه شروحًا تقول إنّ وعود الله لِبني إسرائيل أبدية، وإنّ مَن يبارك إسرائيل يباركه الرب، ومن يُعاديها يعادي إرادة السماء.

بذلك، تحوّل الإنجيل من كتاب خلاصٍ روحيّ إلى خريطةٍ سياسيةٍ، ومن مرجعٍ ديني إلى مرجعيةٍ إيديولوجيةٍ تُبرّر وجود إسرائيل وتمنحه مشروعيةً مقدسة. ومع انتشار "إنجيل سكوفيلد" في الجامعات والكنائس الأميركية، خرج من عباءته جيلٌ كاملٌ من الوُعّاظ والمفكرين الذين نشروا هذا الفكر في كل أرجاء المجتمع.

ظهر في الإذاعات والتلفزيون ما يُعرف بمدارس النبوّات، التي تتحدّث عن قرب نهاية العالم وضرورة عودة اليهود إلى فلسطين تمهيدًا للمجيء الثاني للمسيح. شيئًا فشيئًا، تحوّل هذا الخطاب إلى ركنٍ من أركان الثقافة السياسية الأميركية. لم يَعُدِ الأمر قضيةً إيمانيةً تخصّ المؤمنين وحدهم، بل عقيدةٌ قوميةٌ تتغلغل في مؤسّسات الدولة، وتوجِّه نظرتها إلى العالم.

ترسَّخ في العقل السياسي الأميركي أنّ العلاقة مع إسرائيل التزامٌ عقائديّ له جذورٌ في التاريخ المقدّس

لحظة تأسيس إسرائيل سنة 1948، لم تكن بالنسبة للكثير من الأميركيين قيام دولةٍ عاديةٍ، بل نبوءةً تحقّقت أمام أعينهم. كان الرئيس هاري ترومان أوّلَ من اعترف بها بعد دقائق من إعلان قيامها، لا بدافع المصلحة السياسية وحدها، بل لأنّ الثقافة الدينية التي نشأ عليها جعلته يرى في ذلك جزءًا من الخطة الإلهية.

ومنذ تلك اللحظة الأولى لقيام دولة إسرائيل، ترسَّخ في العقل السياسي الأميركي أنّ العلاقة مع إسرائيل ليست مجرّد تحالفٍ استراتيجيّ، بل التزامٌ عقائديّ له جذورٌ في التاريخ المقدّس. وفي العقود التالية، تعمّق هذا الارتباط أكثر فأكثر.

صارت إسرائيل بالنسبة إلى الإدارات الأميركية المُتعاقبة امتدادًا طبيعيًا للهوية الأميركية ذاتها: دولة قامت على فكرة الاختيار الإلهي، ومهمّتها نشر "القيم الروحية" في عالمٍ مملوءٍ بالشرّ. كان دعمها يُقدَّم دائمًا في الخطاب السياسي الأميركي على أنّه دعمٌ للحرية والإيمان لا لاحتلالٍ أو قهر. وفي خضمّ الحرب الباردة، حين أرادت أميركا أن تُلْبِسَ نفوذها العالمي أرديةً رساليّةً، وجدت في إسرائيل رمزًا دينيًا يبرّر حضورها في الشرق الأوسط.

وهكذا، حين وصلنا إلى القرن الحادي والعشرين، لم يكن اللّاهوت الذي صنع إسرائيل قد انزوى في هوامش التاريخ، بل وجد في السياسة الأميركية الحديثة امتدادًا جديدًا له، يتحدّث بلسانٍ آخر، ويرفع الراية القديمة ذاتها بثوبٍ معاصر.

من هنا يمكن فهم ظاهرة دونالد ترامب لا بوصفها انحرافًا عن المسار الأميركي، بل بوصفها اكتمالًا له في صورته الأوضح والأكثر فجاجة. لم يأتِ ترامب بجديدٍ بقدر ما عبّر بوضوحٍ فَجٍّ عن هذا الميراث اللّاهوتي والسياسي.

الإطار اللاهوتي يتحوّل إلى عبء ثقيل لأنّه لم يعد يتناسب مع وعيٍ عالمي جديد يبحث عن العدالة والإنسانية

كان ترامب يرى نفسَه أداةً في يد العناية الإلهية، ورأى في دعم إسرائيل واجبًا دينيًا قبل أن يكون سياسيّا. لم يكن قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 2017 قرارًا سياسيًا فقط، ولا مجرّد واحدة من صفقاته، بل طقسًا نبوئيًا أُنجز أمام أنظار قاعدته الإنجيلية التي رأت فيه "الملك كورش الجديد" الذي يستخدمه الرب ليُعيد مجده في الأرض. في تلك اللحظة، تماهى النص الديني مع القرار السياسي، وبدت واشنطن وتل أبيب وجهَيْن لعملةٍ واحدةٍ صهيونية المعدن.

في فترته الرئاسية الثانية، يواجه ترامب حقيقة أنّ العالم تغيّر، وأنّ اللّاهوت القديم بدأ يواجه امتحانه الأصعب. بعد أن أظهرت حرب السنتَيْن على غزّة، للأميركيين وجهًا آخر للصراع. بدأت الأسئلة تتصاعد في الجامعات ووسائل الإعلام: كيف يمكن لعقيدةٍ تقول إنّها رسالة خلاص أن تبرّر الحصار والقصف والتدمير والإبادة والتطهير العِرقي؟ وكيف يمكن لبلدٍ يرفع راية الحرية أن يغضّ الطرف عن مأساةٍ إنسانيةٍ بهذا الحجم؟ وبكلّ هذه المآسي والفواجع؟.

في أوساط الشباب الأميركي، وحتى داخل الكنائس الإنجيلية نفسها، بدأ يتراجع الإيمان المطلق بـ"التحالف المقدس" مع إسرائيل، لصالح رؤيةٍ أكثر إنسانيةً ونقدية.

لقد أدرك الكثير من المفكّرين الأميركيين أن هذا اللّاهوت الذي صاغ السياسة الخارجية للولايات المتحدة قرنًا كاملًا لم يكن بريئًا من المصالح ولا معزولًا عن القوة. فقد منح واشنطن غطاءً روحيًّا لهيمنتها، وجعلها تتعامل مع الشرق الأوسط لا كمنطقةٍ لها حقوقها وشعوبها، بل كمسرحٍ لتحقيق نبوءةٍ دينية.

ومع أنّ هذا الإطار اللاهوتي خدم السياسة الأميركية طويلًا، إلّا أنّه اليوم يتحوّل إلى عبءٍ ثقيلٍ، لأنّه لم يعد يتناسب مع وعيٍ عالمي جديد يبحث عن العدالة لا عن الاصطفاء، وعن معاني الإنسانية لا عن وعودٍ توراتيّة.

"همجية الحرب الإسرائيلية" في مواجهة شعبٍ أعزل محتلّ ومحاصَر فرضت على أميركا والعالم معًا السؤال البديهي: هل يفسّر هذا التاريخ الطويل، وهذه الجذور اللّاهوتية العميقة، ذلك التماهي الكامل بين ترامب ونتنياهو، بين إسرائيل والولايات المتحدة؟ أم إنّ السياسة الأميركية ـ على الرَّغم من تبدّل الوجوه والأحزاب ـ لا تزال أسيرة لاهوتٍ لم يُفكَّك بعد؟.

تحوّل اللّاهوت إلى سياسةٍ تصنع دولًا وتمحو أخرى وصار الإيمان الذي يدعو إلى خلاص الإنسان غطاءً لمعاداة الإنسان

مهما تكن الإجابة، فإنّ المؤكّد أن اللّاهوت الذي صنع إسرائيل وصاغ وجدان الإمبراطورية الأميركية يقف اليوم عند مفترق طرق: فإمّا أن يستمرّ في إنتاج الصراع والقداسة الزائفة باسم النبوءة، وإمّا أن يُفسِح المجال لوعيٍ جديدٍ يرى في الإنسان، لا في الخرافة، جوهر الرسالة.

لقد بدأ الزمن الأميركي نفسه يُراجع ما كُتب في "هوامش إنجيل سكوفيلد" عام 1909، حين تداخل النص الإلهي مع حسابات القوة، وامتزجت العقيدة بالمصلحة، وتحوّل اللّاهوت إلى سياسةٍ تصنع دولًا وتمحو أخرى. وكان أخطر ما في هذا التحوُّل أنّه لم يكن خروجًا عن تعاليم المسيح فحسب، بل انقلابًا عليها؛ إذ صار الإيمان الذي يدعو إلى خلاص الإنسان وسلامه، غطاءً لمعاداة الإنسان ذاته، وتبريرًا لعُنفٍ يرفع الصليب بيدٍ ويُبارك القتل بالأخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن