يُعدّ المبرّر التقليديّ لطلب "الصندوق" تخفيض سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار والعملات الحرّة الرئيسية، هو أنّ ذلك التخفيض يعني تخفيض سعر السلع الوطنية عند تقييمها بتلك العملات الحرّة مما يتيح الفرصة لزيادة الصادرات السلعية، وفي الوقت نفسه يرفع أسعار السلع المستوردة مقدّرة بالعملة المحلية بما يؤدي لتقليل الطلب المحلي عليها وتحسين الميزان التجاري.
كما أنّ تخفيض سعر صرف العملة الوطنية يؤدي لارتفاع القدرة الشرائية للدولار والعملات الحرّة في السوق المحلية ممّا يشجّع السياحة الأجنبية التي تنخفض تكلفتها، ويشجّع الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر.
وفي هذا الشأن يبدو تخفيض سعر صرف العملة المحلية إجراءً واضحًا وصريحًا لمصلحة الرأسمالية العالمية وشعوب بلدانها برفع قدراتهم الشرائية في البلد المستقبل لهم والذي خفّض سعر صرف عملته، بما يمكّنهم من شراء الأصول العامة والشركات المطروحة للخصخصة والأصول الخاصة بأبخس الأسعار.
تحقيق الاستقرار لسعر صرف العملة المحلية بعد تخفيضها يُعدّ ضرورة لتنشيط الاستثمار المحلي والأجنبي
ويفقد ذلك الإجراء قيمته وفعاليته النظرية إذا لم يكن لدى الدولة التي خفّضت سعر صرف عملتها إنتاج قابل للتصدير، أو كانت تفتقد للبنية الأساسية والسياحية اللازمة لاستقبال السياح والاستثمارات الأجنبية، أو كانت صورتها في مجال الحريات الشخصية والسياسية سلبية ومنفرة للمستثمرين والسياح الأجانب، أو كان النظام الحاكم استبداديًا بما يخيف حتى الاستثمارات المحلية الخاصة من مطالب وجور أجهزة الدولة وأصحاب النفوذ، وهو للأسف حال غالبية الدول العربية التي تطبّقه ولا تحرز نتائج فعّالة.
كما يتحوّل تخفيص سعر صرف العملة المحلية إلى إجراء معوق لتدفّق الاستثمارات المحلية والأجنبية إذا توالت التخفيضات واضطرب سعر صرف العملة المحلية، فتحقيق الاستقرار لسعر صرف العملة المحلية بعد تخفيضها يُعدّ ضرورة لتنشيط الاستثمار المحلي والأجنبي لأنّ هذا الاستقرار يوفر إمكانية بناء الحسابات المستقبلية للاستثمار بصورة دقيقة في ظلّ عملة مستقرّة، أما إذا استمرّت في الانخفاض والاضطراب فإنّ الحسابات المستقبلية التي تقوم عليها الاستثمارات تصبح معقّدة ومستحيلة في غالبية الأحيان.
وعلى صعيد آخر، فإنّ تخفيض سعر صرف العملة المحلية الذي قد تضطر إليه حكومات الدول المدينة كشرط لجدولة ديونها أو للاقتراض مجددًا، تكون له آثاره المتشعّبة محليًا والتي تكون في مجملها ضدّ مصالح أصحاب حقوق العمل أي العاملين بأجر من الفقراء والطبقة الوسطى، ويصبّ بالأساس في مصلحة رأسمالية الدولة المدنية والعسكرية وأصحاب حقوق الملكية وعلى رأسهم الرأسمالية الكبيرة.
إنه باختصار يساعد الحكومات التي تطبّقه على نهب شعوبها وتخفيض الدخول الحقيقية للفقراء والطبقة الوسطى، فكيف يتمّ ذلك؟
تخفيض العملة كآلية لزيادة التضخم والإفقار
من البديهي أنّ أيّ تخفيض ملموس في سعر صرف العملة المحلية لأيّ دولة يتبعه ارتفاع في أسعار السلع المستوردة والسلع المحلية التي تستخدم مكونات مستوردة، ثم كلّ السلع والخدمات، بما يخفض القدرة الشرائية للأجور ويخفض الدخول الحقيقية للفقراء والطبقة الوسطى، ويدفع بشرائح جديدة لهوة الفقر.
ويلجأ بعض الحكومات عمدًا إلى ترك التضخّم يرتفع لأنه يقلّل القدرة الشرائية للأجور، أي يخفض الأجور الحقيقية للعاملين في الدولة ولدى القطاع الخاص (الأجر الحقيقي هو قدرة الأجر الإسمي أي النقدي على شراء السلع والخدمات) بما يخفّف ضغط الطلب الفعّال على السلع والخدمات ويغطي على بطء الاقتصاد في تنمية إنتاجهما، ويقلّل الطلب على الواردات.
وكلّما كان عدد العاملين في الجهاز الحكومي متضخمًا كما هو الحال في مصر وغالبية البلدان العربية، فإنّ ذلك يشكّل إغراءً للحكومات باتباع هذه الحيلة المالية لتخفيض الأجور الحقيقية طالما أمنت ردّ الفعل الاجتماعي والسياسي بسيف القمع أو بأيّ وسيلة أخرى.
ارتفعت ديون مصر الخارجية من 46,1 مليار دولار عند استلام السيسي الحكم إلى 162,9 مليارًا في 2023
ويقترن تخفيض سعر الصرف كعنصر رئيسي ودائم في الوصفة الأيديولوجية الجامدة والغبية لصندوق النقد الدولي، بإلغاء الدعم ورفع أسعار الطاقة، وهي كلّها إجراءات تساهم في رفع معدّل التضخّم وتخفيض الأجور الحقيقية للعاملين بأجر.
وفي مصر، على سبيل المثال، قامت الحكومة المصرية برفع أسعار البنزين بأكثر من 400% خلال سنوات حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي في إطار البرنامج الذي يتمّ تطبيقه بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي مقابل إقراض الحكومة المصرية والتوصية للجهات المقرضة دوليًا بإقراضها، بما أدى في النهاية إلى ارتفاع ديون مصر الخارجية من 46,1 مليار دولار عند استلام الرئيس الحالي للحكم في منتصف عام 2014 إلى 162,9 مليار دولار في أول يناير 2023.
التحسين الزائف لأداء الحكومات
بمجرّد تخفيض سعر الصرف والإجراءات الأخرى المتعلّقة بتخفيض الدعم السلعي ورفع أسعار مواد الطاقة، تنتقل دوال تكلفة إنتاج السلع والخدمات لأعلى، ويزيد الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية وليس الحقيقي المقدّر بالأسعار الثابتة.
وتفاخر الحكومات بتلك الزيادة ببجاحة في العادة مستغلّةً عدم معرفة العامة بسبب وحقيقة تلك الزيادة. كما تفاخر الحكومات بأنّ نسبة الدين المحلي للناتج المحلي الإجمالي قد تراجعت رغم أنّ ذلك التراجع ناتج عن حيلة مالية ونقدية وليس عن كفاءة الحكومة وإجراءاتها، فالديون المحلية التي حصلت عليها الحكومة قبل انفجار التضخّم كانت مقدّرة بعملة ذات قيمة وقدرة شرائية أعلى، بينما الناتج بعد التضخم أكبر كثيرًا لكنه مقدّر بعملة قدرتها الشرائية أقلّ.
الانخفاض في نسبة الديون للناتج هو نتيجة حيلة نقدية - مالية وليس نتيجة كفاءة
وعلى سبيل المثال أدى ارتفاع معدلات التضخّم لمستويات قياسية في الأعوام 2016/2017، 2017/2018، 2018/2019، في أعقاب تخفيض سعر صرف الجنيه المصري بأكثر من 50% مقابل الدولار والعملات الحرّة الرئيسية، إلى تقليل نسبة الديون المحلية إلى الناتج المحلي الإجمالي من 96,7% في يونيو 2016، إلى 86,5% في يونيو 2017، إلى 79,2% في يونيو 2018، إلى 76,5% في يونيو 2019، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري (النشرة الإحصائية الشهرية، أبريل 2023، صـ 17) وذلك بعد الزيادة الكبيرة التي حدثت لذلك الناتج بالأسعار الجارية لأسباب تضخّمية وليس نتيجة زيادة الإنتاج كميًا.
ولتبسيط الأمر نفترض أنّ الدولة كان ناتجها = 1000 جنيه واقترضت 100 جنيه، بما يعني أنّ نسبة الدين للناتج هي 10% وكان معدّل الفائدة على ذلك القرض 15%. وخلال سنة بلغ معدّل التضخّم 23,5% (كما كان الحال في مصر في عام 2017 وفقًا للبيانات الرسمية) بما يعني أنّ الناتج، حتى ولو لم يرتفع كميًا، أصبحت قيمته الجارية في السوق بفعل ارتفاع الأسعار والتضخّم 1235 جنيه، بينما ارتفعت قيمة الدين بعد حساب الفائدة إلى 115 جنيه، وأصبحت نسبته للناتج 9,3% فقط.
أي أنّ هذا الانخفاض في نسبة الديون للناتج هو نتيجة حيلة نقدية - مالية وليس نتيجة كفاءة! ولو أرادت الحكومة معرفة نسبة الدين للناتج بدون الحيل المالية والنقدية يمكنها أن تحسب نسبة الدين للناتج بالأسعار الثابتة.
الطبقة الوسطى ضحية حيلة تخفيض العملة
يتحدّد الطرف المضار من تخفيض سعر الصرف وما يترتّب عليه من تراجع القيمة الحقيقية للديون القديمة بالجهات التي قدّمت القروض المحلية للدولة وهي البنوك. وتلك البنوك تعمل بأموال المودعين وغالبيتهم الساحقة من القطاع العائلي أي الطبقة الوسطى (81,3% من الودائع في الجهاز المصرفي المصري في مارس 2023 تعود للقطاع العائلي، مقابل 16,5% للقطاع الخاص، و 2,2% لقطاع الأعمال العام).
لن تكفّ الحكومات عن نهب الطبقة الوسطى إلا في ظلّ نظام اقتصادي سياسي اجتماعي عادل وقادر على تحقيق التنمية
والبنوك في حد ذاتها لا تتضرّر لأنّ أسعار الفائدة على الودائع والحسابات الجارية وحسابات التوفير التي تدفعها للمودعين فيها، أقلّ كثيرًا من الفوائد التي تحصل عليها من إقراض الدولة عبر شراء السندات وأذون الخزانة. أي أنّ المضار هنا هو المودعين في الجهاز المصرفي وغالبيتهم الساحقة من القطاع العائلي، أي الطبقة الوسطى، الذين يحصلون في الكثير من الأحيان على فوائد تقلّ عن معدّل التضخّم، أي فوائد سلبية.
وهذه الحيلة لحلب الطبقة الوسطى لصالح الحكومات والرأسمالية الكبيرة ليست قاصرة على مصر، بل هي فعل رديء متكرّر في العديد من الدول الرأسمالية المتقدّمة والنامية والمتخلّفة على حد سواء، ولن تكفّ الحكومات عن استخدام تلك الحيلة في نهب الطبقة الوسطى إلا في ظلّ نظام اقتصادي - سياسي - اجتماعي عادل وقادر على تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية والإنسانية الحقيقية، وهو هدف وحلم لكلّ الطامحين للتنمية والعدالة والحرّية، وعليهم العمل لاستيلاده من أضلع المستحيل.