من بين أصوات قليلة في العالم، تبرز فرانشيسكا ألبانيزي الأكاديمية والحقوقية الإيطالية ومقررة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كأحد أشجع الأصوات التي تؤمن بقضايا الشعوب، والتي لا تزال تدافع عن العدالة والحق والضحايا والمظلومين، رغم كل محاولات ترهيبها وإسكاتها.
تظهر العقوبات الأمريكية التي فرضت على ألبانيزي، مؤخراً، بما في ذلك منعها من دخول الولايات المتحدة وتجميد أي أصول لها هناك، حجم الصدام بين النظام الحقوقي الدولي والسياسات الأمريكية -الإسرائيلية بشأن كل ما يتعارض مع مصالحهما. وتفتح نقاشاً واسعاً حول مستقبل آليات المساءلة والعدالة الدولية، أمام محاولات تسييس هذه العدالة وإخضاعها لتلبية مصالح قوى بعينها، وذلك على الرغم من الدعوات المتزايدة التي تطالب بحماية الأصوات الحقوقية والمؤسسات الأممية.
لم تتردد الولايات المتحدة في استهداف مجلس حقوق الإنسان وهيئات وكيانات حقوقية دولية، بما في ذلك فرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرة اعتقال لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب "إبادة" و"جرائم حرب" في غزة. كما لم تتردد الولايات المتحدة في تعليق تمويل منظمات أممية والانسحاب من اتفاقيات دولية، مبررة ذلك بالدفاع عن المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
وذهبت إلى أبعد من ذلك حين طالبت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بإقالة ألبانيزي بتهمة "معاداة السامية" وهي الذريعة المسلطة دوماً على رقاب كل من يعارض السياسات الأمريكية والإسرائيلية. ويبدو، في هذا السياق، أن الإدارة الأمريكية نجحت في دفع نافي بيلاي ولجنتها الأممية التي تشكلت في عام 2021 للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية إلى الاستقالة، وإن تذرعت بيلاي بكبر سنها (83 عاماً).
لعل أكثر ما يزعج الولايات المتحدة وإسرائيل، هو التقارير التي تصدرها ألبانيزي في إطار رصدها وتوثيقها للانتهاكات الإسرائيلية، والتي تتهم فيها صراحة إسرائيل بارتكاب "إبادة" و"جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية"، وتطالب بإخضاعها للمساءلة والمحاسبة، وفرض عقوبات عليها وقطع العلاقات التجارية والمالية معها. بهذا المعنى، يمكن اعتبار الهجوم على ألبانيزي ومحاولات شيطنتها نذير شؤم لنهاية حكم القانون الدولي، ويمهد الطريق لعالم بلا قواعد.. عالم يسمح فيه لدول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل بارتكاب "جرائم حرب" و"إبادة جماعية" من دون أي مساءلة أو رادع. ولكن رغم ذلك، تقف ألبانيزي، رغم التهديدات، بشموخ في وجه أعتى قوتين في العالم، إحداهما تعتبر نفسها فوق المساءلة والقانون، إلى الحد الذي جعل ممثلها في الأمم المتحدة يقوم بتمزيق ميثاق المنظمة الدولية من على منبرها نفسه.
وتصر ألبانيزي على أنها لن ترضخ للتهديدات أو الترهيب وأنها ستواصل عملها في فضح الانتهاكات الإسرائيلية وكشف النفاق والتواطؤ الغربي، مؤكدة أن دور المقرر الخاص للأمم المتحدة هو الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، لا إرضاء الحكومات، وأنه لا تزال في هذا العالم ضمائر حية لم تمت بعد.
(الخليج الإماراتية)