التعليم والسياسات التربوية

بين الجامعة والمصنع: لماذا يخسر العرب رهان التعليم المهني؟ (2/2)

يعاني التعليم المهني في العالم العربي من تهميشٍ مُزمنٍ، على الرَّغم من الحاجة الماسّة إليه في ظلّ بطالةٍ شبابيةٍ مرتفعةٍ وفجوةٍ واسعةٍ بين التعليم وسوق العمل. تغيب عن النّظام الرؤية الاستراتيجية، وتعوقه نظرة اجتماعية سلبية وضعف الشراكة مع القطاع الخاص. في المقابل، يُقدّم "النظام المُزدوج" للتعليم المهني في ألمانيا نموذجًا ناجحًا بفضل دمج التدريب العملي بالتعليم النظري وشراكة الدولة مع السوق. هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعةٍ عربيةٍ شاملةٍ، تتضمّن تعزيز التعاون الإقليمي، وتنسيق السياسات، وتطوير أُطُرٍ مشتركةٍ تُمكِّن من بناء منظومةٍ مهنيةٍ متكاملةٍ تُعزّز التنمية وتواجه تحدّيات المستقبل.

بين الجامعة والمصنع: لماذا يخسر العرب رهان التعليم المهني؟ (2/2)

في مقابل حالة التهميش التي يعاني منها التعليم المهني في العالم العربي، كما بيّنّا في الجزء الأول من هذه المقالة، تبرز التجربة الألمانية كنموذجٍ يُحتذى به عالميًا. هذا النموذج، المعروف بنظام "التعليم المُزدوج"، يُعَدُّ من أنجح التجارب في دمج التعليم النظري بالتدريب العملي، وهو قائمٌ على شراكةٍ مؤسّسيةٍ راسخةٍ بين الدولة والقطاع الخاص، ويُعتبَر من الركائز الأساسية لنجاح الاقتصاد الألماني وقدرته على الحفاظ على قاعدته الصناعية وتنافسه العالمي.

يمنح النظام الألماني الطالب فرصة الدمج بين الدراسة النظرية في المدرسة المهنية والتدريب الفعلي في شركةٍ أو مؤسسةٍ اقتصاديةٍ، فيقضي جزءًا من الأسبوع في الصفوف الدراسيّة، والجزء الآخر في بيئة العمل. خلال فترة التدريب، يتلقّى الطالب راتبًا شهريًا، ويُعامَل كموظفٍ مُتدرّبٍ له حقوقه، ما يعزّز التزامه ويمنحه دافعًا حقيقيًا إلى التعلّم والتطوّر. هذه التجربة لا تقتصر على الجانب المهني، بل تزرع أيضًا ثقافة الانضباط والالتزام والاعتماد على الذّات في صفوف الشباب.

أكثر من نصف الشباب في ألمانيا يلتحقون بمسارات التعليم المهني

ولا يقلّ أهميةً عن الجانب البنيوي لهذا النظام، التصوّر المُجتمعي الذي يُحيط به. في ألمانيا، لا يُنظر إلى التعليم المهني كخيارٍ أدنى أو بديلٍ للجامعات، بل كمسارٍ مُكَافِئ وربّما أفضل في الكثير من الأحيان، نظرًا إلى العائد السريع الذي يوفّره، وإمكانية التدرّج داخله نحو مراتب متقدّمة من التخصّص والإدارة. كُثُرٌ من خرّيجي التعليم المهني يصلون إلى مناصب قياديةٍ في الشركات الصناعية، أو يختارون لاحقًا استكمال دراستهم العليا، ما يعكس مرونة هذا النظام وقدرته على تلبية تطلّعات الأفراد والمؤسّسات في آن.

ومن الملاحظ أنّ أكثر من نصف الشباب في ألمانيا يلتحقون بمسارات التعليم المهني، ويستفيدون من فرص التدريب العملي الذي يوفّره هذا النظام. وتُشير الدراسات إلى أنّ الأغلبية الساحقة من خرّيجي التعليم المهني يجدون فرص عملٍ مستقرةً في غضون أسابيع من إنهاء تدريبهم، لأنهم يحملون خبراتٍ عمليةً فعليةً، ويفهمون متطلّبات سوق العمل عن قرب. بل إنّ بعض الشركات الكبرى في ألمانيا، مثل "سيمنس" و"مرسيدس" و"بوش"، تُعتبَر شريكًا مباشرًا في تصميم البرامج التدريبية، وتستثمر في تدريب طلاب التعليم المهني كما لو كانوا موظفين مستقبليين.

يكمُن الفارق الأساسي بين التجربتَيْن الألمانية والعربية في الرؤية والسياسة. في حين أنّ ألمانيا ترى في التعليم المهني استثمارًا في الإنسان والاقتصاد معًا، لا تزال معظم الدول العربية تعتبره عبئًا أو خيارًا ثانويًا. هذا الفارق لا يمكن مُعالجته إلّا من خلال إعادة نظرٍ شاملة في سياسات التعليم وسوق العمل، تعتمد على ربطٍ وثيقٍ بين التعليم المهني وخطط التنمية، وتشجّع القطاع الخاص على الدخول في شراكاتٍ حقيقيةٍ توفّر التدريب وفرص التوظيف، وتُكرِّس احترامًا اجتماعيًا لهذا النوع من التعليم.

وجود سوق عمل عربية واحدة يتطلّب توافقًا في المعايير والمهارات ومراكز تدريب إقليمية وكفاءات تقنية

في هذا الإطار، يبرز غياب واضح لمنظور التعاون العربي - العربي في مجال التعليم المهني، على الرَّغم من تشابه التحدّيات والهياكل الاقتصادية والاجتماعية في أغلبيّة البلدان العربية. إنّ تبادل الخبرات والممارسات الناجحة، وتنسيق السياسات، وتطوير أطر مؤهّلات مهنية عربية مشتركة، كلّها خطوات ممكنة وضرورية لبناء كتلةٍ تعليميةٍ مهنيةٍ قادرةٍ على الاستجابة إلى حاجات سوق العمل العربية الممتدّة من الخليج إلى المحيط. بل إنّ وجود سوق عمل عربية واحدة يتطلّب بالضرورة وجود توافقٍ في المعايير والمهارات، ومراكز تدريب إقليمية، ومبادرات مشتركة في مجالاتٍ مثل الرقمنة، والطاقة المتجدّدة، والصناعات التحويلية، وهي مجالات تحتاج إلى كفاءاتٍ تقنيةٍ أكثر من حاجتها إلى شهاداتٍ أكاديميةٍ تقليديّة. ويمكن للمنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية أو "الألكسو" (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) أن تؤدّيَ دورًا في رعاية هذا التوجّه، عبر وضع آليةٍ عربيةٍ دائمةٍ للتعليم المهني، شبيهةٍ بالتنسيق الأوروبي في هذا المجال.

من ناحيةٍ أخرى، تُقدِّم منظمات دولية مثل "اليونسكو" مساهَماتٍ مُهمّةً في دعم التعليم المهني في العالم العربي، ولا سيما من خلال مكتبها الإقليمي في بيروت، الذي يعمل على برامج مثل "العمل من أجل الشباب في منطقة البحر المتوسط"، الهادف إلى تعزيز مُواءمة المهارات مع سوق العمل، إضافةً إلى "برنامج القيادة في التعليم والتدريب التقني والمهني"، الذي يسعى إلى بناء قدراتٍ إداريةٍ محليةٍ قادرةٍ على تحويل السياسات إلى ممارساتٍ فاعلة. لكنّ أثر هذه البرامج يظلّ محدودًا ما لم تلتقط الحكومات العربية هذه المبادرات وتدمجها في سياساتٍ وطنيةٍ شاملةٍ ومستدامة، ولن يكتمل أثرها الحقيقي إلّا إذا تحوّلت إلى رافعةٍ إقليميةٍ لتُقارب السياسات والمناهج والمفاهيم داخل المنطقة العربية.

مستقبل التنمية لن يُبنى فقط في الجامعات بل في الورش والمصانع والمختبرات ومراكز التدريب

ليس إصلاح التعليم المهني في منطقتنا مهمّةً مستحيلةً، ولا يتطلّب موارد هائلةً، بل يحتاج إلى إرادةٍ سياسيةٍ واضحةٍ، وتغييرٍ في الذهنية الاجتماعية، وجرأةٍ في مراجعة السياسات القائمة. كذلك، يحتاج إلى بناء شراكاتٍ ذكيةٍ مع القطاع الخاص، ووضع أطرٍ تشريعيةٍ تحكم العلاقة بين المتدرّب والمؤسّسة، وتتضمّن التدريب العملي كجزءٍ لا يتجزّأ من المنهج. والأهم من ذلك هو الاعتراف بأنّ مستقبل التنمية في المنطقة لن يُبنى فقط في الجامعات، بل في الورش والمصانع والمختبرات ومراكز التدريب، حيث تُصنَع الكفاءات وتُبنَى الاقتصادات، وحيث يمكن للتعاون العربي الحقيقي أن يصنع فارقًا تتجاوز آثاره حدود كلّ دولةٍ على حدة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن