في الأسبوع الأخير اندلعت مواجهات، كان طرفها الأول فئة مسلّحة من الدروز في السويداء، تُعارض سياسة الحكومة السورية، التي شكّلت الطرف الثاني الذي يسعى لاستكمال سيطرته على منطقة الجنوب ومناطق الإدارة الذاتية شمال شرق البلاد، وكان من الواضح أنّ لكلّ طرف مُساندين في المستويَيْن الداخلي والخارجي، حيث كان للطرف الأول دعم مباشر من "قسد" (قوات سوريا الديموقراطية) وآخر خارجي من إسرائيل ودعم غير مباشر من إيران، فيما وقف إلى جانب الطرف الثاني في المستوى الداخلي تحالف التشكيلات المسلّحة الموجودة في تحالف ردّ العدوان من جهة، وتشكيلات "طارئة" تتشكّل على هامش الصراع من جهةٍ ثانية، وفي المستوى الخارجي يظهر في قائمة دعم النظام تحالف واسع تتقدمه الولايات المتحدة وحشد من الدول أبرزها من الأوروبيين بريطانيا وفرنسا، ومن البلدان العربية والإسلامية المملكة العربية السعودية وتركيا.
علاقات عميقة بين "قسد" ومجموعة الهجري وسعي لإعادة تنظيم فلول نظام الأسد وهياكل مرتبطة بإيران
وعلى الرَّغم من أنّ مشكلة الصراع في سوريا ذات طابعٍ سياسيّ، وثمّة توافق إقليمي دولي حولها يقوم على دعم سيطرة الحكومة السورية على كامل الجغرافيا السورية، فإنّ الرؤوس الحامية لدى الإدارة الذاتية "قسد" وجماعة الشيخ حكمت الهجري تُمانع الوصول إلى اتفاقٍ سياسيّ في نقاط وسيطة، وتميل إلى الرفض عبر القوة لأي تفاهمٍ سياسيّ لا يتفق مع ما تعلنه من شروط، وسعت لضمّ موقفها إلى تحالفاتٍ داخلية - خارجية، تبلورت تعبيراته في علاقات عميقة بين "قسد" ومجموعة الهجري في السويداء، والسعي لإعادة تنظيم ما أمكن من فلول نظام الأسد وبعضٍ من هياكل مرتبطة بإيران، وكلّها باتت حقائق في مناطق سيطرة "قسد".
لا شك أنّ ترتيبات التحشيد والقوة في تحالف الجنوب و"قسد"، أثارت مخاوف حكومة دمشق، التي طالما أكّدت تجاربها رفض وجود سلاح لدى الأطراف الأخرى في جوارها، وأدارت عمليات إضعاف قوة حلفائها، فإنّها تميل إلى مواجهات مسلحة تنزع سلاح أي طرف يشكّل قوةً تعارض توجّهاتها وسيطرتها، وهو ما ظهر واضحًا في أحداث الساحل في آذار الماضي، حين ضربت بمؤازرة بعض حلفائها من جماعاتٍ مسلحةٍ بعنفٍ شديدٍ فلول نظام الأسد، وما تعتبره حاضنةً له هناك، وهو ما سوف تتمخّض عنه مواجهات السويداء في خلاصاتها النهائية.
سياسة حكومة دمشق ونواتها المُسيطرة "هيئة تحرير الشام" تتسم بالغموض والتناقض بين القول والفعل
إنّ استخدام القوة في التعامل مع الخصوم والمجتمع عمومًا، يمثّل محور سياسة حكومة دمشق ونواتها المُسيطرة "هيئة تحرير الشام"، التي تتسم بالغموض والتناقض بين القول والفعل، ففي القول تُشيع التطمينات، التي غالبًا ما يتمّ خرقها، وفي الفعل تتوالى سياسة خلق الأزمات أو السكوت عنها وسط الحديث عن مبرّراتها والحاجة إلى المزيد من الوقت لتجاوزها والخلاص منها، وأغلبها مبرّرات مفهومة وحاضرة في الواقع السوري.
إنّ مسار التحشيد والقوة واللجوء إلى العنف طريقًا لإخضاع الآخرين، هو سياق سوري مألوف من جانب الأنظمة وبعض الجماعات المسلحة عبر عقود، لكنّه اليوم وسط خصوصية مرهونة بأمرَيْن؛ أولهما الحاجة إلى الوصول إلى حلّ بين سلطات أمرٍ واقعٍ تجد لها دعمًا وسندًا في الداخل والخارج، والثاني وجود رغبة في التحوّل من مسار التحشيد والقول والعنف إلى مسار التفاوض والحلول السياسية، وهو مسار يجد له أيضًا دعمًا وسندًا كبيرًا في الداخل والخارج. لكنّ مشكلة التحوّل لا تكمن في جدة حضوره وعدم إيمان الأطراف به، وقدرتها على القيام بما يُمليه الانخراط فيه من خطوات إجرائية وسياسية والمُحاطة دائمًا بشكوك الأطراف وخوفها من بعضها، وسيؤدي التوافق والاتفاق السياسي إلى غيابها او تغيّبها وربما حدّ الإعدام، فليس في عالم السوريين القريب أي من المسؤولين والقادة السابقين إلا القليل القليل.
الحلول السياسية تتطلّب خطوات تمهيدية منها فرض عقوبات رادعة ضد المنخرطين في عمليات التجييش والمحرّضين عليها
إنّ مخاوف الحلول السياسية في ظلّ واقع قوى الصراع، تجعلها أبعد على الرَّغم من أنّ فواتيرها وآثارها السلبية أقلّ على الدولة والمجتمع، وفوائد السير فيها أكبر بكثير، إذ تخلق إمكانياتٍ أكبر للتوافق وتعزيز اللحمة الوطنية، وتقوية المسارات نحو الأهداف المشتركة للمواطنين وللدولة في آنٍ معًا.
غير أنّ السير نحو الحلول السياسية، يتطلّب القيام بخطواتٍ تمهيديةٍ منها وقف عمليات التجييش والتحشيد من أي نوعٍ كان، بل وفرض عقوباتٍ رادعةٍ ضد المنخرطين فيها والمحرّضين عليها، ثم اتخاذ القرارات واعتماد إجراءات من شأنها تأمين حقوق المواطنين وبخاصة الحقوق الأساسية، وتسهيل حياتهم وشؤونهم اليومية، وتعزيز وتسهيل العلاقات بين المواطنين وأجهزة السلطة، وكلّها بين إجراءات إيجابية، تفتح أبواب تحوّل من العنف إلى السلم ومن السلاح إلى السياسة، وهذه بين الأشياء الأكثر حاجةً في الحياة السورية، فقد شبع السوريون عنفًا، وآن لهم أن يخلدوا إلى السلام.
(خاص "عروبة 22")