يمكن لهذا النهوض أن يتسارعً بالاستعانة بعناصر خارجيةٍ مثل الطلب الخارجي على السلع الأوليّة والصناعيّة المُنتَجة محليًّا والقادرة على المنافسة في الأسواق الدولية. كما يمكن في حالاتٍ خاصةٍ أن يتسارع بمعدّلاتٍ مُضاعفةٍ في الدول الاستدمارية التي تقوم باحتلال بلدانٍ أخرى ونهب مقدّراتها ومواردها، والسيطرة على أسواقها، وجعل الطلب على السلع والخدمات فيها مُكَرَّسًا لحفز الاستثمار والنموّ في دولة الاحتلال، مثلما فعلت كلّ الدول الاستدمارية بالإجبار في العصر الكولونيالي، وبآليات التتبيع والضغوط في العصر الحالي، والتي تُجدي مع النّخب الحاكمة ضعيفة الكفاءة، والتي لا تملك إرادة الاستقلال والتطور.
الأزمات تحدث في كلّ النُظُم واختيار نموذج الإصلاح يرتبط بمصلحة الحكم
وفقًا للخبرة التاريخيّة في العصر الحديث، منذ بدء التحديث الرَّأسمالي عبر الثورتَيْن الزراعية والصناعية، فإنّه من الطبيعي أن يتعرّض أي اقتصادٍ أيًّا كانت طبيعته ومستوى تطوره والمنطلق الإيديولوجي لإدارته، لاختناقاتٍ وأزماتٍ يكون عليه أن يعمل على تجاوزها والخروج منها والعودة لمسار التطوّر والنموّ عبر ما يُسمّى بالإصلاح الاقتصادي.
صندوق النقد والبنك الدولي اختصرا مصطلح الإصلاح الاقتصادي في النمط الليبيرالي المنفلت من أي ضوابط
ويسود حاليًا انطباع جماهيري عام في الغالبيّة الساحقة من الدول العربية والنامية، مصدره صندوق النقد والبنك الدوليان اللّذان يعملان كوكيلَيْن للرأسمالية العالمية، بالإضافة إلى الإلحاح الإعلاميّ الرسميّ والخاصّ، بأنّ الإصلاح الاقتصادي هو النسخة الرأسمالية الليبيرالية التي جرى ترويجها عالميًّا منذ نهاية سبعينيّات القرن العشرين، وبلغت ذروة نتائجها الوبيلة بكارثة الكساد العظيم الثاني عام 2008. وما زالت مطروحةً من أصحاب المصلحة في ترويجها عبر مختلف أشكال الترغيب والضغوط من الدول الدائنة و"الصندوق" و"البنك" الدوليَيْن اللذَيْن اختصرا مصطلح الإصلاح الاقتصادي في النمط الليبيرالي المنفلت من أي ضوابط، مع استبعاد أنماط الإصلاح الاقتصادي الأخرى بما فيها أنماط رأسمالية مُجرَّبة تاريخيًّا، وأسهمت في إنقاذ الرأسمالية وإطالة عمرها، مثل "الإصلاح الكينزي" الذي يستحقّ أن يُفرَد له مقال خاص.
النموذج الليبيرالي الذي يروّجه صندوق النقد الدولي وكيل الرأسمالية العالمية
يتّسم نموذج "الإصلاح" الاقتصادي الذي يروّجه وكيلا الرأسمالية العالمية، أي صندوق النقد والبنك الدوليّان، بالتماهي المُطلق مع نموذج الاقتصاد الحرّ، وتقييد دور الدولة وحصره في الدفاع والأمن وإنفاذ القانون وضمان التزام الأفراد والمؤسّسات بتعاقداتهم، بما يقترب بها من نموذج الدولة الحارسة التي لا تتدخّل في الاقتصاد ويقتصر دورها على تطوير البنية الأساسية والمشاركة في بعض الخدمات العامة بصورةٍ دائمةٍ أو انتقالية، من دون أن يكون لها أي دور في حفظ التوازن الاقتصادي وضمان التشغيل. كما يقوم على تحرير علاقات العمل، والتجارة الداخلية والخارجية، وتحرير سعر الصرف وتخفيضه مقابل الدولار والعملات الحرّة الرئيسيّة كآليةٍ من المفترض أن تؤدّيَ لزيادة الصادرات والاستثمارات الأجنبية والسياحة الوافدة. وهذا النّموذج يتمّ فرضه على الدول المتعثّرة ماليًا والتابعة للرأسمالية العالمية والتي تتّسم بالاتكالية على الغير وبالاعتماد على الاقتراض والانتظار البليد للاستثمارات الأجنبية، كثمنٍ لإعادة جدولة ديونها أو منحها قروضًا جديدة، وتوصية المؤسّسات المالية الرأسمالية بإقراضها.
الولايات المتحدة تحوّلت إلى الفاشيّة الاقتصادية لإجبار الدول على استيراد السلع الأميركية والاستثمار في الاقتصاد الأميركي
مشكلةُ هذا النموذج الرأسمالي القائم على تحرير العلاقات الداخلية والخارجية للاقتصاد، أنّ الرأسمالية العالمية في مركزها الرئيسي، أي الولايات المتحدة التي تحاول إلزام الدول النامية والمتعثّرة ماليًّا بهذا النموذج، قد انقلبت هي نفسها عليه فيما يتعلق بحرّية التجارة، بعد أن فقدت تفوّقها في المنافسة الحرّة ولم تعُد تلك الحرّية ملائمةً لمصالحها، فتحوّلت إلى الفاشيّة الاقتصادية واستخدام القوة والضغوط والعقوبات لإجبار الدول الأخرى على استيراد السلع الأميركية، وعلى الاستثمار في الاقتصاد الأميركي.
وقد فقد ذلك النموذج أي مصداقيّة، فضلًا عن جموده الإيديولوجي الذي لا يتّسم بأي ذكاء، والذي أنتج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في التطبيق العملي في غالبيّة الدول النامية، بسبب إصرار صندوق النقد الدولي على إلزام الدول المَدينة والمتعثّرة بتطبيق نموذجٍ واحدٍ في كلّ الحالات من دون النّظر إلى تبايُن ظروف الدول ومستويات تطوّر اقتصاداتها!.
نموذج "الصندوق" أنتج الأزمات وما زالت الدول العربية المتعثّرة مستمرّة في تطبيقه
لم تمتثل الدول العربية المَدينة لنموذج صندوق النقد الدولي فحسب، بل تقوم آلتها الإعلامية الرسمية بالترويج لهذا النموذج كمرادفٍ وحيدٍ للإصلاح الاقتصادي، حتى بعد أن أدّى تطبيقه لسنوات طويلة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والمنطقة العربية نفسها، وحتّى في الولايات المتحدة والغرب، إلى انفجار أزماتٍ متتاليةٍ في أميركا اللاتينية في ثمانينيّات القرن الماضي، وفي المكسيك، ومن بعدها شرق وجنوب شرق آسيا في تسعينيّاته. ثمّ الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية أو الكساد العظيم الثاني في عام 2008، والذي انتقل إلى مختلف بلدان العالم من خلال آليات التجارة السلعية والخدمية والعوامل المعنوية المؤثّرة في الاقتصاد، وبالذّات في البورصات والاستثمار المباشر وكلّ النشاطات السريعة التأثّر بالعوامل المعنوية والتوقّعات المستقبلية، والذي قامت الصين الاشتراكية بدورٍ جوهريّ في إخراج العالم منه عبر آليات التجارة والاستثمار والإقراض.
الدول التي تُطبّق "الإصلاح" على طريقة "الصندوق" بحاجة إلى برنامج إصلاح حقيقي يعالج الاختلالات ويحقّق التنمية والعدالة
كما أنّ تطبيقه في بعض البلدان العربية مسؤول عن وصول أزمة المديونيّة اللبنانية والتونسية والمغربية والسودانية والأردنية والمصرية إلى مستوياتٍ قياسيةٍ غير مسبوقة، بحيث تستنزف خدمتها (سداد الأقساط والفوائد) إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، وتُشكّل الجانب الأكبر من النفقات العامة وتُهدّد استدامة الموازنة العامة للدولة. وهو مسؤول أيضًا عن انزلاق البعض منها إلى فخّ الديون قصيرة الأجل بكلّ مخاطرها على الاستقرار المالي والنقدي. كما أنّه مسؤول عن ارتفاع معدّلات التضخّم والفقر وسوء توزيع الدخل وما يعنيه من ظلمٍ اجتماعيّ. وهو ما يعني أنّ الدول التي تُطبّق نموذج "الإصلاح" على طريقة "الصندوق"، بحاجةٍ إلى برنامجٍ للإصلاح الحقيقي الذي يعالجُ الاختلالات ويحقّق التنمية والعدالة، وهو ما سنحاول الاقتراب منه بتقديم أنماط الإصلاح الاقتصادي الأخرى في مقالاتٍ مقبلة.
(خاص "عروبة 22")