بصمات

ابنُ الهَيْثَم.. والإيمانُ بِلُغَةِ العِلْم!

لم تَكُنْ لغةُ العِلْمِ غريبةً عن العربِ يومًا، فعندما كان الإيمانُ بالعِلم سبيلًا للتقدّم وتحقيق سعادة الإنسان على الأرضِ، بَرَزَ علماءُ العربِ في جميع المَجالاتِ يَهْضِمونَ تراثَ مَن سَبَقَهُمْ، ثم يُبْدِعونَ نظرياتٍ وأفكارًا أصبحت الأساسَ الذي قامت عليه الحضارةُ الإنسانيّةُ في مرحلةٍ تاليّة. من بين الأسماءِ العديدةِ لعُلَماءِ العربِ يحضر اسمُ الحسنُ بنِ الهيثمِ (تُوفّي بعد عام 432هـ/ 1040م)، الذي شكّلَ محطةً لا يُمْكِنُ تجاهلُها في تَطْويرِ العديد من العلوم التي شارك فيها بنصيبٍ وافرٍ وساهمَ في الترويجِ للحداثةِ العِلميةِ بصورةٍ تجعلُ المرءَ يَنْبَهِرُ بهذه العقليّةِ الاستثنائيّةِ التي عاشت بين البصرة والقاهرة.

ابنُ الهَيْثَم.. والإيمانُ بِلُغَةِ العِلْم!

يُقَدِّمُ ابن الهيثمِ بمجهوداتِه التأسيسيّةِ في علوم الرياضيّاتِ والمناظِرِ والفلكِ وفلسفةِ الرياضيّاتِ، الرَّدَّ العِلميّ على الأقوالِ غير العِلمية بأنّ العربيةَ لا تستطيع أن تكونَ لُغَةَ عِلْمٍ، كما يكشف مُنْتَجُ ابن الهيثم العِلمي عن دورٍ مِحْوَريّ لعبه المسلمون في تطوير العلومِ عبر وِعاءِ العربيةِ، بصورةٍ لا يمكنُ تجاهلُها أو محاولةُ حصرِها في نقل المعارف اليونانية إلى أوروبا الغربيّة، فلم يكن العربُ سعاةَ بريدٍ بل شركاءَ حضارةٍ أصليّين، وهو ما يُثْبِتُهُ مُؤَرِّخُ العلومِ رشدي راشد في سلسلةِ كُتُبِهِ عن تَأْريخِ العلوم العربية، والتي كان أحدثُها كتابُهُ (ابن الهيثم: انْبِثاقُ الحداثةِ الكلاسيكيةِ)، والذي تُرْجِمَ إلى العربية مُؤَخَّرًا.

واستحقّ ابنُ الهيثم الإشادةَ الواسعةَ من مُؤَرِّخي العلومِ المسلمين، فهذا جمال الدّين القفطي يقولُ في كتابه عن الحُكماءِ إنّه "صاحبُ التَّصانيفِ والتَّآليفِ المذكورةِ في علم الهندسةِ، كان عالِمًا بهذا الشأن مُتْقِنًا له مُتَفَنِّنًا فيه، قَيِّمًا بِغَوامِضِهِ ومعانيه، مُشاركًا في علوم الأوائلِ، أَخَذَ الناسُ عنه واستفادوا منه"، بينما يقول ابنُ أبي أُصَيْبَعَة عنه في كتاب (طَبَقاتِ الأَطِبّاءِ): "لم يُماثِلْهُ أحدٌ من أهل زمانه في العِلم الرياضيّ ولا يَقْرَبُ منه، وكان دائمَ الاشتغال، كثيرَ التصنيفِ، وافرَ التَّزَهُّدِ، مُحِبًّا للخير".

الإيمان بلغة العِلم هو شرطُ التقدّم الحضاري في كلّ زمان ومكان

لم يقتصرْ مُنْجَزُ ابن الهيثم على الاكتشافاتِ العديدةِ التي تُنْسَبُ له، وأشهرُها في عِلم المَناظِرِ، بل على قدرتهِ الفَذَّةِ على وضع مناهجَ جديدةٍ للعلوم أَسَّسَت للحداثةِ العِلميةِ التي ستبني عليها أوروبا، بعدما نقلت أَعْمالُهُ إلى اللغات الأوروبية منذ فترةٍ طويلةٍ، وتركت تأثيرَها المُباشِرَ في علماء من نوعيّة روجر بيكون (Roger Bacon) وجون بيكهام (John Beckham) ويوهانس كبلر (Johannes Kepler) ورينيه ديكارت (René Descartes)، ليَخْلُصَ راشد إلى أنَّ ابن الهيثم يُقدّمُ لنا "صورة عالِمٍ كونيّ بمصادرهِ، وبالمكانة التي يحتلّها بين مُعاصِريهِ، وبالتّأثير الذي كان له طوال قرونِ شرقًا وغربًا، وهي سماتٌ كثيرةٌ تجعله أحد المبشِّرينَ بالحداثة العِلميّة".

واحدةٌ من تجلّياتِ عَبْقَرِيّةِ ابن الهيثم تجلّت في مشروعٍ طموحٍ يشمل بناء سدٍّ على نيلِ مصر يحميها من تقلّباتِ الفَيَضانِ، فقد أَلَّفَ على ما يبدو كتابًا في علم الحيل أيْ الميكانيكا، ورأى في بلاطِ الفاطميّين المُزدهر في القاهرة فرصةً لتنفيذِ رؤيةٍ جسورةٍ ببناء سدٍّ على نيلِ أسوان للتحكّمِ في مياه النيل، إذ نُقِلَ عنه قوله: "لو كنتُ بمصر لعملتُ في نيلِها عملًا يحصلُ به النّفْعُ في كلّ حالةٍ من حالاتِهِ، من زيادةٍ ونقصٍ"، الأمر الذي دَفَعَ الخليفة الفاطمي الحاكمَ بأمر الله لاستدعاءِ ابن الهيثم إلى القاهرة.

تَوَجَّهَ ابنُ الهيثم إلى صعيد مصر لمحاولةِ البَدْءِ في مشروعه الطموح الذي لا نعرف تفاصيلَهُ على وجهِ الدقّةِ، ووصل بالفعل عند منطقة الْجَنْدَلِ الأوّلِ في أسوان، وهناك اصطدمَ بإمكاناتِ عصره المَحْدودَةِ، التي تجعل من تنفيذ مشروعه ضَرْبًا من المستحيل. وعلى الرَّغم من أنه عاد إلى القاهرة مُحْبَطًا إلّا أنّ الفكرةَ في حدّ ذاتها تكشفُ عن عبقريةٍ علميةٍ فريدةٍ، ففي المنطقة نفسِها التي اختارها كنقطةٍ لمشروعهِ في أسوان، هي ذاتُها التي سيُقام فيها مشروعُ خزّان أسوان في بدايات القرنِ العشرين ثمّ السّدِّ العالي في سِتينِيّاتِ القرن ذاتِه.

مشكلة المجتمعات العربية حاليًا تكمن في ظروف موضوعية إذا تغيّرت تغيّر حال العرب معها عبر إعلاء قيمة المعرفة والبحث

عَقْلِيَةٌ بحجمِ ابن الهيثم التي نقلت المعرفةَ إلى مستوياتٍ أعلى، تُثبت أنّ الإيمانَ بلغة العِلم هو شرطُ التقدّم الحضاري في كلّ زمانٍ ومكانٍ، بما يعني هذا هَضْمَ ما أَنْجَزَتْهُ البشريةُ من تقدمٍ واستيعاب شروط المعرفة، ثم الانطلاق في عمليةِ الإِبْداعِ الخَلّاقِ، فلم يقف ابن الهيثم موقفَ الجُمودِ إزاء تُراثِ بطليموس وأرسطوطاليس، بل دخلَ في نقاشٍ علميّ على أرضيةٍ مشتركةٍ انتصر فيها للبحثِ الحُرّ.

أَثْبَتَ العالِم الكبير من جهةٍ أخرى أنّ العرب، كمظلّةٍ حضاريةٍ لم تكن حضارةَ نقلٍ واتّباعٍ، بل عقلٌ وابتداعٌ، وأنَّ المشكلةَ التي تُواجِهُ المجتمعاتِ العربية حاليًا لا تكمن في الذّات؛ بل في ظروفٍ موضوعيةٍ إذا تغيّرت تغيّر حال العرب معها، عبر إعلاءِ قيمة المعرفة والبحث الحرّ، فَهُمْ في النهاية ليسوا غُرَباءَ عن لغة العِلم كما أثبتَ ابن الهيثم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن