بصمات

في النّهضة والإصلاح!

لـعـلّ الصّـلـةَ بـيـن مـفـهـوم التّحـديث ومـفـهومَي النّـهضـة والإصـلاح تـكُـون صـلةً باهـتـة، أو لعـلّـها تـكـون - في أفـضـل الحـالات - صـلةً غـيـرَ مبـاشـرة. التّـحـديث فـعْـلٌ أو آلـيّـةُ عـمـلٍ قابـلـةٌ لأن تَـحـتـمـل أيَّ مضمـون يـمـكـن تـركيـبُـها عـليه؛ إذِ التّـحـديثُ، مـن حيث هـو فاعـلـيّـة، ليس مشـروعًـا ذا أهـدافٍ خاصّـةٍ وغـايـاتٍ مُعـرَّفـة، بـلِ الغـالـبُ عليه أن يكـتسـب مـعـنـاهُ مـن هـدفٍ أعلى يعـمـل داخـل نطاقـه: النّـهضـة، الإصـلاح، التّـقـدّم، الحـداثـة... إلخ. إنّـه وسيـلةٌ لإنـفـاذ كـلِّ مشـروعٍ مـن هـذه وتحـقـيقِـه تحـقيـقًا مـادّيًّـا (واقـعـيًّـا)؛ لذلك نجـدُه مخـتـلفًـا بين مشـروعٍ وآخـر: جـذريًّـا في حـالٍ (الحـداثـة مثـلًا) وسطـحـيًّـا في حـالٍ أخـرى (الإصـلاح مثـلًا). ومـا هـذا التّـردُّدُ في درجـة حـركـتـه بين حَـدَّي الاستـمراريّـة والقـطيـعـة سـوى التّـعـبيـر المباشر عـن تـابـعـيّـتـه لبـرنـامج أهـدافٍ بـعـيـنـه. على أنّ تـابـعـيّـتَـه تلك ليست مبْـعـثَ انـتـقاصٍ مـنـه؛ ذلك أنّ الحاجـة إليه تظـلّ حيـويّـةً وماسّـةً في الأحـوال جمـيعِـهـا، لأنّـه الحامـلُ الوظيـفيّ الذي يـنـقُـل كـلّ مبـدأ أو هـدف مـن حـيّـز الابـتـغـاء إلى حـيّـز الإمـكـان؛ مـن الافـتـراض إلى التّـحـقُّـق. لذلك يـفـرض نـفـسَـه بـوصـفـه شـرطًـا لازِبـًا لنـجاح أيّ مشـروع.

في النّهضة والإصلاح!

لـمفـهومـَيْ النّـهـضـة والإصـلاح، في المـقابـل، تـاريـخٌ دلالـيّ يـعـود إلى حـقبـة تحـقُّـقـهما التّـاريـخيّ (القـرن السّادس عـشـر للميـلاد) سـرعـان ما استُـعـيـدت محـصَّـلـتُـه، في بـيئـاتٍ أخـرى خـارج أوروبـا، فـأُعـيـدَ إنـتـاجُ المـفـهـومَيْـن ضـمـن نطـاق دلالـتهـمـا التي اكـتـسبـاهـا في دائـرتـهـما المـرجـعيّـة الأوروبـيّـة. إنّـهـما مـفـهـومـان وحـركـتان يشـيـران إلى أهـدافٍ بـعيـنـها انـعـقـدت على تحـقيـقـها إراداتٌ عـدّة: ثـقافـيّـة - أدبـيّـة - فـنـيّـة وديـنـيّـة فـكـريّـة، وخـيـضَ في معـركـة سَـعْـيٍ إلـيهـما تـراوحـت أكـلافُـها بين يسـيـرِ الأثـمـان (النّـهـضـة) وباهـظـهـا (الإصـلاح الـدّيـنـيّ)، لـكـنّ ثـمراتـها أيـنـعـت في قـرن الإنجـاز (السّادس عشـر) وبعـضُـها تـأخَّـر لنـصف قـرن. ومع فـارقٍ بين المـفهـومَـيْـن والحـركـتَـيْـن: في المعـنـى، وحـقـل الاشـتـغـال، والقـوى الاجتماعـيّـة الحامـلة، والأدوات والوسـائـل...، فـقـد جـمـعت بـيـنـهـما غـايـةٌ عـليا واحـدة دافـعـة: الخـروج مـن الأزمـنـة القـديمـة وتـدشيـنُ أزمـنـةٍ حـديـثـة.

فكرة النّهضة حين اختُبرت في بيئات مختلفة باتت ترمز إلى نهضة الاجتماع والاقتصاد وسوى ذلك من الميادين

انـصـرفـت حـركةُ النّـهضـة إلى إبـداع قـيـمٍ ثـقافـيّـةٍ جـديـدةٍ على صـعـيـد التّـعبـير الأدبـيّ والشّـعـريّ والمسـرحيّ، وعلى صـعـيـد التّـعبيـر الموسيـقيّ والتّـصـويريّ (الرّسـم والفـنّ التّـشـكيليّ) والعـمـارة، تُـعـيد إلى الدّنـيـويِّ والجـمـاليِّ اعـتـبارَه، بـعـد حـقـبـةٍ مـديـدةٍ مـن سطـوة مـا هـو روحـيّ في الثّـقـافـة الأوروبـيّـة المسيـحيّـة، وتـحـتـفـي بالجسـد والمرأة والتّـعـبيـرات الإيـروسيّـة والبطوليّـة بـعـد مـديـدِ انـقطـاعٍ عنها في الحـقبـة المسيـحـيّـة. كـان لا بـدّ لأوروبـا الجديـدة المرغوبـة والمُتَـطَـلَّـع إلى قيامـها مـن ثـقـافـةٍ جـديـدةٍ مطابِـقـةٍ ومـن قـيـمٍ جمالـيّـةٍ وثـقافـيّـةٍ مساوِقـةٍ لـفكـرة التّـغـيـير وإرادة التّـغـيـير. ولقـد يـكون هـذا هـو عينُه الشّـوطُ الذي قـطـعـتْـه فـكـرةُ النّـهضـة حيـن اخـتُـبرت في بـيـئـاتٍ مجـتـمـعـيّـةٍ وثـقـافـيّـةٍ عـديـدةٍ ومخـتـلفـةٍ (اليابان، العالـم العربيّ، أميركا اللاّتيـنيّـة، الهـنـد، الصّـيـن...)، وإنْ كـان معنـى النّهضـة قـد اغـتـنـى - أكـثـر - في بعـض تلك البيئـات فـباتـت تـرمـز لا إلى نهـضـة الثّـقـافـة والأدب فحسب، بـل وإلى نهـضـة الاجتـماع والاقـتـصاد وسوى ذلك مـن المياديـن أيضًـا.

في المقـابـل، انـصرفـت حـركةُ الإصـلاح إلى إنجـاز عـملـيّـةٍ مـن التّصـحيـح داخـل المسيحيّـة؛ إنْ في العـلاقـة بالنّـصّ الدّيـنـيّ وكيـفـيّـةِ تـفـسيـره، أو فـي السّـلك الكهـنـوتيّ وسـلطانِـه الرّوحـيّ والمـادّيّ على المـؤمـنـين. ومع أنّ الـدّعـوةَ إلى الإصـلاح الـدّيـنـيّ هـذه أنجـبـت انـقـسامًـا حـادًّا جـديـدًا في المسـيـحيّـة، واستجـرّت معـها مـوجـاتٍ مـن الحـروب مـتـلاحقـةً عـمّـت أوروبـا وامـتـدّت في الـزّمـان لِـما يَـنُـوف على مائـة عـام، إلاّ أنّـهـا لـم تـلـبـث أن تـركـت صـداهـا في العـالـم كـلِّـه، فـكـان أن ألـهـمـت حـركـاتٍ عـديـدةً للإصـلاح الـدّيـنـيّ في العـالـم بما في ذلك داخـل الكـنـيـسـةِ عـيـنِـهـا (الكـاثـوليـكـيّـة) التي عـصـف بـهـا الإصـلاحُ اللوثـريّ البـروتيـسـتانـتـيّ؛ حيث ما لـبـث الفـاتيـكـان نـفـسُـه أن أطـلق مـوجـةً مـن المراجـعـات اللاّهـوتـيّـة العـمـيـقة، خـلال اجتـماعـات المَـجْـمـع الثّـانـيّ في النّـصـف الأوّل مـن سـتّـيـنـيّـات القـرن العـشريـن، أعـاد مصـالحـةَ المسيـحـيّـة مـع العـصـر وقـيـمِ الحـداثـة فـيـه.

ما كان للحداثة أن تنشأ في العهد الحديث إلا بعد نجاحات النّهضة والإصلاح في النّطاقات التي تناولهـا كلٌّ منهمـا

مـع ما بـيـنـهما مـن الفـوارق، جَـمَـع بين النّـهـضـة والإصـلاح جـامـعٌ هـو مُجـاوَزةُ مـاضٍ عـليـلٍ بـمـاضٍ سلـيـم؛ أي مجـاوزةُ الماضي بالعـودة إليه لا بالقـطـع معـه. ليست نـهـضة القـرن السّادس عشـر الأوروبيّة في إيطاليـا أكـثـر مـن عـودةٍ إلى الميـراث الثّـقـافيّ اليونـانـيّ - الرّومـانـيّ، قبـل المسـيحـيّ، الذي أحـدث فيـه ظـهـورُ المسيحـيّـة في أوروبـا انـقـطـاعًـا. بالمثـل، لـم تـكُـنِ الـدّعـوة إلى الإصـلاح أكـثـر مـن دعـوةٍ إلى العـودة إلى النّـصّ الـدّينيّ قبـل أن تـنـشأ الكـنيسةُ فـتـبْـسُـط سلطتَـها عليه واحتكارَها لـه. ولم يـخـرُج معنى النّهضة والإصـلاح، في القـرن التّاسـع عشـر العربيّ، عن معـنـاهـما في أوروبـا؛ إذْ نُـظِـر إليـهـما بـما هـمـا عـودة إلى مـاضٍ سليـمٍ (الأدب العـربيّ في عـهـده الكـلاسـيـكيّ المـرجعـيّ؛ الإسلام في أصوله الأولى قـبل الانـشـقاق والتّـمـذهب) وتجاوزٌ، بالتّـالي، لـماضٍ سيّءٍ (عـهـود الانحـطاط الطّـويـلـة). فـي كـلّ حـال، مـا كـان يـمـكـن للـحـداثـة أن تـنـشـأَ فـي العـهـد الحـديـث إلاّ بـعـد أن أحـرزتِ النّـهـضـةُ والإصـلاح نجـاحـاتٍ فـي النّـطـاقـات التـي تـنـاولـهـا كـلٌّ مـنـهـمـا؛ وهذا يعـني أنّ تلك العودةَ كانت ضروريّـة: لا من أجل المكوث في الماضي وتـكرارِه، بل من أجل تجاوُزِه وتحقيق التّـقـدّم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن