في إحدى عربات مترو القاهرة المكتظة بالركاب، انهمكت فتاة، وجدت بالكاد متّسعًا للوقوف، في متابعة مقطع فيديو قصير لأحد أبرز أطباء التجميل المصريين، عبر موقع للتواصل الاجتماعي. كان الطبيب يتحدّث من حديقة منزله، يحيطه طيف واسع من ألوان النباتات، في لوحة حيّة مريحة للعين، بينما كانت المشاهدة الشابة تلتقط أنفاسها بصعوبة، وسط الزحام، وهي تتابع شرح الخمسيني الوسيم لعملية تصغير أنف أحد مرضاه.
في مشهد آخر، التفّ بضعة أصدقاء حول عربة فول لتناول الإفطار قبل المسارعة إلى أعمالهم. كان صبيّ صغير يعاون صاحب عربة الفول في رصّ الأطباق أمام الزبائن. وخلال لحظات توقفه القليلة، كان يسحب شاشة هاتفه بسبابته إلى أعلى، في سعادة، وهو يطالع مقاطع راقصة شهيرة في الساحل الشمالي، المقصد الصيفي للميسورين من المصريين والعرب.
القاسم المشترك بين الفتاة المهمومة بتجميل الأنف، وصبي عربة الفول، وزبائنه، المهتمين بأخبار الساحل الشمالي وعجائبه من الغيد الحسناوات، أنّ نافذتهم إلى ذلك العالم السحري لم تكن إلا حساباتهم على المنصات الاجتماعية، وشاشات هواتفهم التي يدفعون ثمنها بالتقسيط في أغلب الأحيان.
لا أنبذ حقّ أحد في الفرجة، ولا أزاحم "تيك توك"، أو "فيسبوك"، أو "انستغرام"، في تحديد تفضيلات مستخدميه، لكن المشكلة تكمن في انسحاب ظلال ذلك "العالم الافتراضي" إلى واقعنا جميعًا، بشكل بات يهدّد "طعم الحياة" في أيامنا، ويبشّر بتأثير أوسع وأخطر.
كثيرة هي الدراسات البحثية التي تصدّت لتهديد مواقع التواصل لقيمة "الرضا". ومن هذه الدراسات، ما نشرته المجلة التربوية لكلية التربية بجامعة سوهاج في مصر، في آذار/مارس 2023، تحت عنوان: "تأثير إدمان برامج التواصل الاجتماعي على الشعور بالرضا عن الحياة والحيوية الذاتية لدى طلاب الجامعة"، أعدّها الدكتور قطب عبده حنور، والدكتورة علياء عادل عبد الرحمن، من أساتذة الصحة النفسية بجامعة كفر الشيخ.
باختصار، تفيد الدراسة بأنّ ظهور "التفاعل الافتراضي"، خَصَمَ من الرصيد الإنساني للتفاعل الاجتماعي المباشر الذي عرفه الإنسان منذ قرون. كما تنبّه الدراسة إلى أنّ "إدمان مواقع التواصل الاجتماعي كان له تأثير، في صفوف الشباب، على نمط حياتهم، وتمتّعهم بمستوى صحة نفسية جيدة، وشعورهم بالرضا عن حياتهم".
ولعلي لا أتجاوز إن قلتُ إن الشباب ليسوا وحدهم في قائمة "ضحايا التفاعل الافتراضي"، فالخطر يهدّد شرائح عمرية أوسع، وينذر بتشكيل "وعي جمعي زائف"، تتراجع فيه قضايانا الوطنية والقومية المُلحّة، لحساب قضايا مثل تصغير الأنف، فحاذروا!
(خاص "عروبة 22")