لطالما سعت إسرائيل وعملت على تقسيم الفلسطينيين إلى خمس مجموعات ديموغرافية وفق انتشارهم الجغرافي القسري، لتتعامل مع كل مجموعة سياسياً و"قانونياً" على نحو يُبقيها معزولةً عن الأخريات، ويمنع التواصل المباشر في ما بينها والقدرة على العمل المشترك من أجل مشروع ممكن التحقّق على الأرض. هكذا، تعاملت تل أبيب مع فلسطينيي الداخل، أو الـ48، بوصفهم "مواطنين إسرائيليين" درجة ثانية، إن لجهة حقوقهم في التملّك أو الاختيار الحرّ لموضع العيش أو لجهة الموازنات الخدماتية والتعليمية المرصودة لمدنهم وبلداتهم ومدارسهم، أو لجهة "يهودية الدولة" التي تستثنيهم.
وتعاملت مع فلسطينيي القدس الشرقية التي ضمّتها بعد احتلالها العام 1967بوصفهم مقيمين فيها لا "مواطنين"، بما يُبقيهم عرضة للانتهاكات ولمصادرة الأملاك في قلب الأحياء القديمة وفي مستوطنات توسّعت لتفصلهم عن الضفة الغربية وتحاصرهم ضمن مساحة تضيق تدريجياً. ويمكن للمقدسيّين أن يفقدوا إقاماتهم في مدينتهم إن غابوا عنها لفترة، خاصة إن كانت لديهم جنسية ما، إذ أنهم في الأغلب لا يملكون غير بطاقات إقامة تمنحها إسرائيل لهم، وهي أوراقهم الثبوتية شبه الوحيدة، التي يبتزّهم الاحتلال بواسطتها.
وتعاملت إسرائيل مع فلسطينيي الضفة الغربية وفق نظام عدّته الهيئات الحقوقية الفلسطينية والدولية وبعض الهيئات الإسرائيلية نظام "أبارتايد"، أي نظام تمييز عنصري مكتمل المعالم، لأنه يدمج الاحتلال العسكري بنشاط استيطاني يقوم على السطو على الأراضي وشقّ طرقات وإنشاء مرافق لا يُسمح لغير المستوطنين باستخدامها، ويَفرض على الفلسطينيين قوانين عسكرية في حين يعتمد القوانين المدنية الإسرائيلية في التعامل مع المستوطنين، تاركاً الأخيرين مسلّحين ومحصّنين تجاه معظم الجرائم والاعتداءات التي يرتكبونها. وتمنع سلطات الاحتلال التواصل الترابي بين المدن والقرى الفلسطينية بواسطة أكثر من 800 حاجز عسكري، وبواسطة جدار الفصل الذي بنته ويمرّ أحياناً داخل المناطق المأهولة ويقطّعها.
وإسرائيل تحضّر منذ فترة لضمّ أجزاء من الضفة، لا سيّما في المنطقة التي أسماها اتفاق أوسلو المنطقة ج، وهي تشكّل 60 في المئة من المساحة، بعدد سكّان قليل يمثّل فلسطينياً 10 في المئة فقط من عدد السكان الإجمالي في الضفة (البالغ قرابة الثلاثة ملايين)، في مقابل كثافة استيطانية وموازنات لبناء وحدات إضافية جعلت عدد المستوطنين يتخطّى الـ400 ألف (يُضافون إلى أكثر من 350 ألفاً في المنطقتين أ وب، أي المناطق حيث المدن والقرى الفلسطينية، وفي القدس الشرقية).
وفصلت إسرائيل أيضاً أهل غزة عن باقي الفلسطينيين ووضعتهم منذ العام 2007 تحت شروط عيش مختلفة، يفرضها الحصار وإقفال المعابر، والتحكّم بكل ما يدخل أو يخرج، في قطاع فيه واحدة من أعلى معدّلات الكثافة السكانية في العالم لضيق مساحته (حوالي 360 كلم مربّع) بعدد سكّان يتخطّى المليونين. وقد تعرّض هؤلاء، قبل عمليات الإبادة الدائرة منذ 22 شهراً ومنع الطعام والمياه والأدوية والمسكّنات وسائر المستلزمات الصحية المفروضة اليوم، إلى أربع حروب قتلت الآلاف وجرحت عشرات الآلاف منهم، وبات في غزة جيل كامل لم يخرج بحياته من مدينته أو محيطها، وهو يعيش دورياً على وقع القصف الجوي والبري والبحري.
ويتّضح أن الهدف الأساسي من التعامل مع هذه الفئات الفلسطينية الأربع، لا سيّما الثلاث الأخيرة (في القدس والضفة وغزة)، هو دفع العدد الأكبر من الفلسطينيين إلى المغادرة النهائية، تعديلاً للديموغرافيا، وحصر من يبقى في معازل يمكن إدارة بعض الخدمات فيها ويستحيل تحويلها إلى أساس لقيام كيانية سياسية ذات حيثية جغرافية وتواصل سكّاني وعمراني. وطبعاً وصل الأمر حدود المجازر المعمّمة والتجويع والتسبّب بالأمراض والعقم والتدمير الكامل في حالة غزة بهدف التطهير العرقي في عدد من مناطقها، بما يجعل ضمّها مهدّمة وخالية من السكان أقلّ "صعوبة".
فوق ذلك، تتعامل إسرائيل مع اللاجئين الفلسطينيين أو فلسطينيي الشتات بوصفهم جسماً خطيراً، أو مجموعة خامسة، ينبغي استهدافها قانونياً على الدوام، عبر الطعن بالقرار الأممي 194 الذي يتحدّث عن حقّ العودة والتعويض، وعبر استهداف المؤسسة الأممية الراعية للاجئين، أي الأونروا، من أجل إنهاء التوصيف القانوني الذي يُبقي قضيّتهم حيّة. على أن هذه السياسة الإسرائيلية باتت اليوم أمام تحدّيات جديدة. ليس فقط لأن الفلسطينيين لم يستسلموا مرّة تجاهها، وليس لأن المنظمات الحقوقية باتت أكثر فأكثر واضحة المواقف والأحكام في مواجهتها، بل أيضاً لأن مجموعة متغيّرات طرأت ويمكن أن تطرأ دولياً في المقبل من الأشهر.
فالمحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكّرات توقيف بحقّ نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت، وثمة دعاوى ضد ضباط وجنود إسرائيليين في أكثر من بلد أوروبي، وجنوب أفريقيا ومعها عدد من الدول تُقاضي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، والحملات بهدف فرض تجميد اتفاقات التعاون والشراكة معها تتواصل في أوروبا، وكثرة من استطلاعات الرأي تظهر التبدّل الكبير في الرأي العام الأمريكي في ما خصّ استمرار الدعم غير المحدود لها. والجديد في هذا السياق أن مسار اعترافات غربية بدولة فلسطينية قد يبدأ بعد شهر، فيشمل إضافة إلى فرنسا وكندا دولاً أوروبية، يُحتمل أن تنضم إنكلترا إليها في وقت لاحق. وهذا سيتيح داخل كلّ واحدة من الدول المذكورة المطالبة بإجراءات تلي الاعتراف وتتصدّى لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي واحتلالها الذي أكّدت محكمة العدل لا شرعيّته وطالبت بإنهائه وإنهاء الاستيطان المرافق له ونظام التمييز القائم بموجبه، بوصفها جريمة ضد الإنسانية.
ويمكن القول إن أي مقاربة حقوقية دولية تتعامل مع إسرائيل، تنطلق اليوم من أن هناك ثلاث إسرائيلات في قفص الاتهام: إسرائيل الإبادية في غزة، وإسرائيل الأبارتيدية في الضفة، وإسرائيل التمييز داخل حدودها المعترف بها. وهذا يفرض تعاملاً مركّباً معها، لم يكن قائماً مرّة في السابق. وهو ما يفسّر جانباً من الهستيريا الإسرائيلية ومحاولة الاندفاع قدماً على كلّ الجبهات لخلق واقع فلسطيني وإقليمي أكثر تعقيداً، ولجعل كل إجراءٍ دوليّ يبدو متأخّراً أو بلا طائل، وللاستفادة إلى أبعد الحدود من ولاية دونالد ترامب الذي لا يسلّح الإبادة كما فعل بايدن فحسب، بل يؤيّد تغيير الخرائط أيضاً، وهو ما لم يكن ليفعله سلفه.
فلسطين والمنطقة إذاً في سباق محموم بين التطوّرات الميدانية والتطوّرات الحقوقية والسياسية عالمياً، التي ستؤثّر حكماً في مستقبل الصراع المستمرّ، والمتّخذ أكثر من أي وقت مضى، منحى ديموغرافياً. ذلك أن الضمّ أو استمرار الاحتلال العسكري يتطلّبان من وجهة نظر الإسرائيليين فلسطينيّين أقل. وهذا ما لن يحصل على نحو حاسم مهما ضاعفوا القتل ومهما هجّروا. والاعتراف بدولة فلسطينية يتطلّب التعامل معها بوصفها محتلّة ومستعمَرة، وهذا ما سيدفع بدوره لجعل قدرة إسرائيل على التغيير الديموغرافي طرداً أو قتلاً أقل فاعلية. المأساة، في انتظار تبلور كلّ هذا، أن أعداد الضحايا ستستمرّ بالتزايد ومثلها الآلام والأضرار الجسيمة.
(القدس العربي)