صحافة

ترامب ونتنياهو في مواجهة "حلّ الدولتين"

عبدالوهاب بدرخان

المشاركة
ترامب ونتنياهو في مواجهة

خلال تفقّد المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف أحد مراكز توزيع المساعدات في منطقة رفح، برفقة السفير الأميركي الغوغائي مايك هاكابي، كانت هناك حماية إسرائيلية لصيقة، لكن كان ينقص شيء واحد كي يكتمل المشهد ويصبح أكثر واقعية: أن يقدّم القتلة (الإسرائيليون أو المتعاقدون الأميركيون) عرضاً لكيفية قتل بضع عشرات من الفلسطينيين منتظري المساعدات كل يوم.

غير أن هذا العرض حصل، بالتزامن، في مراكز توزيع أخرى، بحسب ما أفاد به إعلام "حكومة غزّة". قال ويتكوف إنه قصد غزّة ليعطي رئيسه دونالد ترامب فكرة صحيحة، وكانت الخلاصة التي توصل إليها سياسية وكاذبة: "لا جوع في غزّة". كان يمكنه إعلان ذلك من دون أن يتجشّم عناء السفر للاطلاع على نشاط "مؤسسة غزّة الـ (لا) إنسانية" التي ساهم شخصياً في إنشائها كبديل أميركي - إسرائيلي من وكالة "الأونروا" وسائر منظمات الإغاثة.

الأكيد أن إدارة ترامب ستعتمد "شهادة" ويتكوف و"إفادات" بنيامين نتنياهو لأن ما يردها من مصادرها الاستخبارية يضطرّها للاعتراف بحقيقة أن ثمة "إبادة جماعية" في غزّة، وهي حقيقة لم يعد ممكناً إنكارها، بل تزداد تداولاً في إسرائيل نفسها، كما في الدوائر الغربية التي تحاول الهروب من الذنب والمسؤولية بإعلان عزمها على "الاعتراف بدولة فلسطين"، حتى لو كان اعترافاً مشروطاً - كما أعلنه رئيس وزراء بريطانيا - متجاهلاً أن بلاده أطلقت "وعد بلفور" بتأسيس "وطن قوميّ للشعب اليهوديّ" في فلسطين، ولم يكن ذلك الوعد مشروطاً.

اكتشفت الدول الغربية متأخرة جداً أنها صنعت "الوحش الإسرائيلي"، واعتقدت أنها تستطيع ترويضه، لكنه أفلت منها وعاث فساداً في كل القيم والمبادئ التي تدّعيها، ووضع أخلاقيتها وتقديسها الملتبس للقوانين والأعراف الإنسانية في اختبار صعب. غطّت طويلاً على الجرائم والفظائع التي ارتكبها، لكنه يذهب أبعد وأبعد. المهم عند الإدارة الأميركية أن يبقى ترامب قادراً على الاستمرار في دعمه لإسرائيل ومخططاتها، حتى لو اضطرّ لتبني أكاذيب نتنياهو، أو لإنكار المجاعة، أو للدفاع عن القتل المنهجي للمدنيين.

لذلك فهو تعمّد التقليل من الحراك الديبلوماسي الذي أظهر أن دولاً غربية أجرت مراجعة، ولو متأخرة، لموقفها من الحرب الإسرائيلية على غزّة، وبرهنت ذلك بمشاركتها في المؤتمر الدولي لتنفيذ "حلّ الدولتين" الذي انعقد بمبادرة من المملكة العربية السعودية وبرئاسة مشتركة مع فرنسا. وعلى رغم أن ترامب وأعوانه يؤكّدون الآن أنهم يعملون على إنهاء الحرب في غزّة، لم تبد إدارته جديةً إزاء "مؤتمر حلّ الدولتين" ووثيقته الختامية التي قدّمت، للمرة الأولى خلال عامَيْ الحرب، مشروعاً شاملاً للتعامل مع كل جوانب الأزمة في "اليوم التالي" وما بعده: من تداعيات الحرب أمنياً وسياسياً وقانونياً وإعادة إعمار، إلى مسائل الحكم الانتقالي والدائم في غزّة، والأهم إلى تنفيذ "حلّ الدولتين" بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة تعيش بسلام وأمن جنباً إلى جنب مع إسرائيل "بما يتيح اندماجاً إقليمياً كاملاً واعترافاً متبادلاً".

ذهبت وثيقة مؤتمر "حلّ الدولتين" إلى قبول الحدّ الأقصى من متطلبات إنهاء الحرب، بما في ذلك إدانة هجمات "حماس" على المدنيين الإسرائيليين في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وإنهاء حكمها في غزّة ونزع سلاحها وتسليمه إلى السلطة الفلسطينية، لكن مع إدانة الهجمات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين وما تخللها من حصار وتجويع تسببا بكارثة إنسانية مدمّرة. وانطلاقاً من أحكام القانون الدولي، أكّدت الوثيقة "رفض أي أعمال تؤدي إلى تغييرات إقليمية أو ديموغرافية، بما في ذلك التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين"، مستخلصةً أن "الحرب والاحتلال والإرهاب والتهجير القسري لن تحقق السلام ولا الأمن".

بماذا ردّت واشنطن؟ بعقوبات سياسية لا معنى لها لكنها ترمي إلى زعزعة الشرعية الدولية للسلطة الفلسطينية عبر اتهام مسؤولين فيها وفي منظمة التحرير الفلسطينية بأنهم يعملون على "تدويل الصراع" مع إسرائيل، ولدعم هذه الحجة الركيكة والغريبة استُرجع "دعم الإرهاب والتحريض على العنف" (على رغم الانخراط الأميركي في التنسيق الأمني الفلسطيني مع إسرائيل) وبالأخص دعم إجراءات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. أي أنه يُراد حبس الفلسطينيين في تفاوض بلا نهاية أو حل نهائي مع الإسرائيليين، وحجب تأشيرات الدخول عنهم لمنعهم من تفعيل قضيتهم في مؤسسات الأمم المتحدة. هذا لا يعيد القضية إلى ما قبل اتفاقات أوسلو فحسب، بل يعيدها الى ما قبل نكبة 1948 عندما لم يكن للفلسطينيين أي تمثيل دولي.

بُنيت وثيقة مؤتمر "حلّ الدولتين" على فرضية أن إسرائيل "دولة طبيعية" لكنها لا تريد أن تكون كذلك، فكيف ردّت؟ هدّدت بتنفيذ إجراءات "جاهزة" لضمّ الضفة الغربية، ودرس مجلسها الوزاري خططاً أعدّها الجيش لاحتلال قطاع غزة أو أجزاء منه. ولا يزال إخلاء سكان الضفة وغزة من أولوياتها، بل لا يزال نتنياهو يقول إنه "متوافق" مع ترامب على هذه الأهداف. 

(النهار اللبنانية)

يتم التصفح الآن