ولا تصلح بشكل مطلق الكليشيهات الغربية الجاهزة التي انهمرت كالسيل وتصف كلّ انقلابات هذه الموجة منذ ٢٠٢٠ في منطقة غرب أفريقيا بأنها ليست سوى انقضاض من أصحاب اليونيفورم المتعطّشين للسلطة على التجارب الديمقراطية الوليدة والحكومات الدستورية المنتخبة الشرعية.
فرنسا والدول الغربية ربما كانت آخر الأطراف التي من حقّها أن تتحدّث عن الديمقراطية في أفريقيا، وسجلّها فيها معروف فهي لم تمارس تقليدًا سياسيًا أكثر من التحالف مع الحكّام المستبدين من موبوتو إلى بونغو ولم تتورّط شركاتها، التي تنزح النفط واليورانيوم والنحاس والمنجنيز والذهب والفضة.. إلخ من كنوز أفريقيا الخام، أكثر من التورّط مع أُسر ونخب حاكمة قليلة العدد استأثرت معهم بالثروة وتركت الشعوب الأفريقية بين خطّين محزنين لا ثالث لهم، هما خط الفقر وخط الفقر المدقع.
ولم تتورع المخابرات الغربية في استخدام الانقلابات على الزعماء الوطنيين الأفارقة، ويكفي مثلًا هنا دور المخابرات الفرنسية في انقلاب كومباوري ١٩٨٧ على سانكارا في بوركينافاسو. وتُفضل القوى الغربية إما حدوث انقلابات لا تمسّ مصالحها، يتغيّر فيها فقط أسماء الحكّام، أو تحويل الديمقراطية بموافقتها إلى مجرّد انتخابات شكلية مزوّرة فتبقى بها عائلة تابعة مثل آل "بونجو" في حكم بلد كالجابون ٥٥ سنة متّصلة يورث فيها الأب الحكم لإبنه برعاية فرنسا.
بعض انقلابات الموجة الأخيرة هو بالفعل انقلابات جنرالات غارقين في الفساد ومتعطّشين للثروة والسلطة
فيما عدا القاسم الجيو-تاريخي المشترك الذي يجمع هذه الانقلابات، وهو أنها كلّها كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وما زالت مواردها تُنهب بشكل رئيسي من باريس، فإنّ الجمع بين هذه الانقلابات في سلّة واحدة هو سردية غربية تستهدف الخلط بين انقلابات القصور التي تستبدل نخبة أو أسرة حاكمة تابعة للمستعمرين القدامى بأخرى مع إبقاء آليات تركيز الثروة كما هي، وبين انقلابات أخرى توحي بما يسمّيه بعض الباحثين في علم الثورات بانقلابات قد تتحوّل إلى ثورات وتقوم بإحداث تغييرات جوهرية في بنية الاقتصاد ونمط توزيع الثروة ودرجة عالية من الاستقلال الوطني وإعادة صياغة العلاقة مع المركز الرأسمالي.
بعض انقلابات الموجة الأخيرة (٢٠٢٠ - ٢٠٢٣) هو بالفعل انقلابات جنرالات غارقين في الفساد ومتعطّشين لكعكة أكبر في الثروة والسلطة. وهي انقلابات قصر بامتياز لن تُحدث تغييرًا في العلاقات الطبقية ولن تجلب التصنيع ولا الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وستبقي على آليات التبعية للقوى المهيمنة وهي لن تكون سوى نسخة أخرى من الانقلابات التي دبّرها الغرب كانقلاب مويس تشومبي على بطل استقلال الكونغو باتريس لومومبا.
من الانقلابات التي يرجح أنّ هذه الصفات تنطبق عليها، هو انقلاب الجابون الأخير، فالجنرال نجيما الذي قاد الإطاحة بالرئيس بونجو هو أحد أقربائه، وهو نفسه متّهم في قضايا فساد مالي مع نحو ٤٠ من عائلة بونجو، ومن المرجح أنّ هذا الانقلاب تمّ باتفاق يضمن للعائلة الاحتفاظ بالحكم ولكن مع تغيير شخص الرئيس.
إنقلابات غير تقليدية "فيها رائحة الستينات ولمحة من عصر حركة التحرّر الوطني الأفريقي"
باختصار قد يتضح كما تقول المعارضة أن يصبح الانقلاب مكسبًا لفرنسا التي كانت علاقتها قد توترت مع الرئيس علي بونجو بسبب قيام الأخير بتوسيع نطاق شركاء الجابون الغنية بالنفط بدول أخرى غير فرنسا، منها الصين. ربما ما يدلّ على ذلك هو ردّ الفعل الفرنسي المناقض لموقفها المتشدد من انقلاب النيجر قبل أكثر من شهر والذي يدعم تدخلًا عسكريًا من مجموعة "الإيكواس" لإسقاط الانقلاب وإعادة الرئيس النيجري المعزول محمد بازوم بالقوة للسلطة، إذ اكتفت في انقلاب الجابون بالدعوة الخجولة إلى الالتزام بالشرعية، وفي مقابل ذلك نجد لافتًا أنّ من أعرب عن قلقه ودعا بحزم للحفاظ على حياة الرئيس بونجو هي الصين التي كان الرئيس المعزول قد فتح أبواب بلاده لاستثماراتها مُنهيًا بعضًا من الاحتكار الفرنسي لها.
لكن هناك انقلابات غير تقليدية حدثت في هذه السنوات الثلاث يمكن للمحلّل المستقلّ الغير خاضع للسردية الغربية ولا الصينية - الروسية أن يقول، لكن بقدر من التحوط والحذر "إنني أشمّ فيها رائحة الستينات ولمحة من عصر حركة التحرّر الوطني الأفريقي" ويستدلّ على ذلك ببعض المؤشرات التي تطمسها السردية الغربية أو تضخّمها السردية المنافسة:
• التأييد الشعبي الذي لم تستطع كل مهارات الإعلام الدولي إخفاءه، خاصة أنه وصل إلى صورة مظاهرات تأييد يومية لقادة الانقلاب مصحوبة بشعارات معادية لفرنسا خصوصًا، والغرب عمومًا، شهدت "تنفيسًا" عن كل ميراث الغضب الأفريقي من الاستعمار القديم والجديد، من أول ظلم العبودية والرق وحتى النهب المنظّم للقارة، مرورًا بالغطرسة التي تصل لحدّ إهانة بعض الرؤساء الأفارقة حتى من سفراء الدول الأوروبية.
• تم تخطيط وتنفيذ بعض الانقلابات عن طريق ضباط من الشباب صغار السن المتعلّمين تعليمًا جيدًا بما يعنيه ذلك من ميل القادة الشباب عادةً إلى التغيير الجذري فيما تميل انقلابات الجنرالات كبار السن نحو المحافظة والإبقاء على مصالح المركز. أي يجمع هؤلاء الشباب من الضباط ما يجمع جيلهم من كل الشباب الأفريقي الذي منحه التعليم أدوات فهم نقدي لآليات السيطرة الأوروبية على ثروات بلادهم وشعورًا عاليًا بالندية تجرح كبرياء التعالي الغربي.
يستطيع المرء أن يتذكّر هنا التشابه في العمر الصغير بين قادة التحرّر الأفريقي والآباء المؤسّسين في هذه المنطقة، مثل نكروما (٤٣ عامًا)، لومومبا (٣٥ عامًا) وسيكوتوري (٣٦ عامًا)، الآن نجد النقيب إبراهيم تراوري يقود انقلابًا في بوركينا فاسو ويصبح قائدًا لبلاده وهو دون الـ(٣٤ سنة).
• يستطيع المرء أن يلاحظ الخطاب السياسي المناهض للغرب الامبريالي، كخطاب تراوري في القمة الأفريقية - الروسية الأخيرة، والذي لا يختلف كثيرًا عن خطاب سانكارا قبل ٤٠ عامًا، ولا عن خطاب نكروما قبل ٦٠ عامًا. وهو خطاب أحيا لدى مواطنيه العودة للنجاحات الاجتماعية وتوزيع الثروة والاكتفاء الذاتي من الغذاء والتحرّر من صندوق النقد الدولي التي حقّقها زعيمهم سانكارا.
• ظهرت في الأسابيع الأخيرة معالم تبلور جزئي لإطار تضامن إقليمي معادي للغرب وساعي للاستقلال الوطني في غرب أفريقيا والساحل، وذلك عندما شجّع الفرنسيون عملًا عسكريًا تقوم به "الإيكواس" ضد انقلاب النيجر، فاعترضت مالي وبوركينا فاسو واعتبرت كل منهما أنّ أيّ تدخّل عسكري ضد نيامي سيكون بمثابة حرب عليهما، وتبعه تضامن واضح من غينيا وأفريقيا الوسطى، أي أنّ هناك نوعًا ما من إحياء لمشروع نكروما في الستينات لإطار إقليمي في غرب أفريقيا، أو مشروع سانكارا / رولينجز في الثمانينات لعمل اتحاد بين بوركينا فاسو وغانا.
• يبدو أنّ هناك إدراكًا جيدًا لدى بعض القادة الجدد في انقلابات ما يسميه البعض بـ"الثورة من أعلى" باللحظة- التاريخية الراهنة التي تشهد تحوّلات في بنية النظام الدولي من نظام القطب الواحد المهيمن إلى نظام متعدّد الأقطاب، وهي تحولات تقودها الصين ومعها روسيا وتحظى بتأييد هؤلاء القادة، بدليل الثقة التي يتحركون بها دون حساسية أو خوف نحو التعاون مع موسكو وبكين، تقريبًا في كل المجالات.
يتعلّق الأمر هنا بمقارنة ما اعترف به مؤخرًا أحد كبار رجال المخابرات الفرنسية الذي كان مسؤولًا عن أفريقيا، من أنّ كل مشروعات فرنسا للتنمية في أفريقيا كانت دعائية وغير جادة، بينما يرى القادة الأفارقة بأعينهم مشروعات الصين الجادة الأفريقية في البنية التحتية والمجمّعات الصناعية، ويتكفّل حلفاؤهم الروس بالجانب العسكري والأمني لمواجهة مشكلة الإرهاب ضد "داعش" و"القاعدة" والتي أخفقت القوات الغربية طوال السنوات الثماني الأخيرة في هزيمته أو حتى إلحاق ضربة كبيرة به.
• قيمة نشوء تجمّعات أفريقية ذات نهج استقلالي في هذه المنطقة، أنه يمكّنها من ممارسة تفاوض جماعي مع القوى الكبرى لتحصل على أفضل شروط لدعم التنمية فيها وتختار من يقدّم لها تبادلًا متكافئًا ونقلًا للتكنولوجيا وتخفيفًا لأعباء توفير الدولار عن طريق قبول العملات الوطنية في التبادل التجاري.
أكثر ما تخشاه الدول الناهبة لثروات أفريقيا هو وجود سياسيين وطنيين منتخَبين ديمقراطيًا
هؤلاء القادة الأصغر سنًا إذا تبنّوا موقفًا مستقلًا تجاه المحورين الدوليين المتصارعين لا يستبدل تبعية بأخرى، فقد يكون الحكم الغربي عليهم أنهم مجرد انقلاب آخر فاشل يزيد من مآسي أفريقيا حكمًا متسرّعًا. ولكن في كل الأحوال، فإنّ ضمانة أن ينجحوا هو أن يسارعوا ولا يتأخروا في الانتقال إلى نظام مدني ويتفادوا أخطاء الآباء بتحصين التجربة التحرّرية من الهيمنة الخارجية بمؤسسات سياسية ديمقراطية مستقرّة تتضمّن انتخابات حرّة وتداولًا حقيقيًا للسلطة.
فلم يعد سرًا أنّ أكثر ما خشيته وتخشاه الدول الناهبة لثروات أفريقيا هو وجود سياسيين وطنيين منتخبين ديمقراطيًا قادرين على كشف آليات السيطرة الخارجية وتعبئة شعوبهم ضدّها.
(خاص "عروبة 22")