كيف يمكن للمنظمات الصهيونية ومجموعات الضغط المناصرة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في طول العالم وعرضه، أن تغفر لسياسي بريطاني مثل جيريمي كوربن كان، قبل 8 سنوات فقط، زعيماً لحزب العمال؛ أنه رفض علانية إطلاق صفة "منظمة إرهابية" على حركة "حماس"، رغم تكرار السؤال 15 مرّة؟ واستطراداً، هل يعود شبح الرجل ليجوس نهارات وليالي هذه الجهات الآن أيضاً، ليس في هذه الأيام حين تبلغ جرائم الحرب والإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة مستويات أشدّ وحشية وهمجية، فحسب؛ بل والرجل يزمع، مع زميلته في مجلس العموم البريطاني زارا سلطانة، إطلاق حزب جديد، يساري الخطّ وعمّالي العقيدة، مناهض في العمق للإيديولوجيا الصهيونية عموماً، ولسياسات دولة الاحتلال الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والفاشية خصوصاً؟
هذه بعض معطيات مشهد لا تخفى ملامحه التي تثير أوسع القلق في الدوائر الصهيونية والإسرائيلية، حتى قبل أن يُعلن سطر واحد في برامج الحزب الجديد؛ استناداً على ماضي المواقف السياسية والاخلاقية الصريحة والقاطعة للمؤسّسَين، كوربن وسلطانة، في تأييد الحقوق الفلسطينية وإدانة ممارسات الاحتلال كافة؛ فضلاً عن فضح تواطؤ حزب العمال وحكومة كير ستارمر مع حرب الإبادة الراهنة. ذلك لأنّ معطيات أخرى، يتوجب أن تكون أكثر مضاضة في الواقع، تتزايد وتتعاقب حول مستقبل مشروع الحزب.
الفكرة حظيت لتوّها بتأييد "التحالف المستقل"، وهو مجموعة مناصرة لفلسطين ومتضامنة مع قطاع غزّة، وسبق أن انتزعت من حزب العمال 4 مقاعد حاسمة خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، وأوشكت على تهديد عدد من أقرب حلفاء ستارمر، مثل وزير الصحة ووزير العدل. وأكثر من 600 ألف مواطن بريطاني أيدوا مشروع الحزب، خاصة في العاصمة لندن وشمال غربي إنكلترا ويوركشير. وأشار استطلاع رأي، جرى قبيل إطلاق المشروع، إلى أنّ الحزب سوف يحصل على 10% من أصوات الناخبين؛ كما سيفوز بتأييد 29% من الشرائح العمرية بين 18ـ26 سنة، وهو معدل يداني شعبية ستارمر لدى الفئات ذاتها والتي تبلغ 30%. استطلاعات أخرى لاحقة أفادت بأنّ ربع الناخبين البريطانيين يرحبون بفكرة حزب مستحدث، وأنّ 18% منهم يعتزمون التفكير في التصويت لتجمع سياسي يساري يقوده كوربن.
صحيح، من جانب أوّل، أنّ الحزب الجديد سوف يستلّ بعض ناخبيه من قلب حزب العمال ذاته، ومن صفوف الديمقراطيين الليبراليين والخضر أيضاً، بالنظر إلى هويته العمالية واليسارية والتقدمية الجلية؛ ولكن ليس أقلّ صحة، ولعله أشدّ أهمية، أنّ اجتذاب الناخبين لمشروع كوربن ـ سلطانة ورفاقهما لن يقتصر على هذا العنصر وحده، بل قد يتركز أساساً في تراجع شعبية حزب العمال واليسار التقلدي عموماً، وهبوط الرضا الشعبي عن حكومة ستارمر إلى مستويات دنيا قياسية.
ولا عجب أنّ حملات صهاينة الاحتلال ضدّ مشروع الحزب الجديد لا تستعيد ذريعة لاستنكاره ورفضه وتأثيمه أكثر من رفع فزاعة العداء للسامية، ذاتها التي تُساق كذريعة كانت أبرز ستراتيجيات تهميش كوربن، وتحطيم شخصيته منهجياً، وإقصاء أنصاره من حزب العمال، وصولاً إلى طرده شخصياً سنة 2000. ولا غرابة أن يعود الرجل في إهاب شبح يجوس قلاع مجموعات الضغط الصهيونية، الآن إذ يضع على عاتقه طرح مشروع قانون على غرار تحقيق شيلكوت 2016 عن مشاركة بريطانيا في اجتياح العراق، لإجراء تحقيق كامل وعلني ومستقلّ حول دور المملكة المتحدة في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة.
وأياً كانت مناوراته الراهنة، ومقدار "التكويع" عن مواقفه السابقة التي أيدت دولة الاحتلال وبلغت مستوى الإقرار الضمني بقطع الغذاء والماء والدواء عن المدنيين الفلسطينيين في القطاع، فإنّ أرق ستارمر، ومعه قيادات حزب العمال، لن يكون أقلّ وطأة إزاء تعاظم التأييد لمشروع الحزب الجديد… ذلك الشبح الآتي، حمّال المخاوف والأخطار!
(القدس العربي)