القارئ للمسارات التاريخية لمسيحيي المنطقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية / الدينية، لا يمكن أن يعتمد المقاربة الإثنية في تحليل حركيّتهم التاريخية بشكل مطلق. ذلك لاختلاف هذه المسارات ولتفاصيل كثيرة ميّزت مسار كل جماعة سكانية عن بعضها البعض، ولأدوارهم النهضوية اللاحقة في ظلّ الدولة الوطنية الحديثة البازغة، فالمستقلة، وبفضل التواصل مع الحداثة بشكل عام.
في البدء، تأسّست شراكة تاريخية بين المسيحيين والمسلمين في مواجهة الفرنجة في القرن الحادي عشر الميلادي. ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بلغت الشراكة ذروتها من خلال السعي النضالي المشترك لتحقيق النهوض؛ القائم على ثلاثة أركان: النضال - الحداثة - التنمية.
النضال ضد الباب العالي أولًا، والاستعمار الأوروبي: الفرنسي والإنجليزي؛ اللذين تقاسما تركة الرجل المريض (العثماني) حسب صيغة "سايكس بيكو" من أجل نيل الاستقلال ثانيًا، والتدخلات الغربية في مرحلة ما بعد الاستقلال ثالثًا. والحداثة من خلال الانتاج المعرفي والابتكار العلمي، والإبداع الأدبي، والفني، والثقافي. والتنمية من خلال مشروع تنموي.
أنهت دولنا الوطنية قرن النهضة وهي عاجزة عن الاستيعاب التام للمسيحيين
والنتيجة، أنه ومع منتصف السبعينيات من القرن العشرين تراجعت دورة النهوض بفعل مجموعة من العوامل، أوّلها: تنامي الجماعات الدينية "العُنفية" التي أطلّت علينا بخطاب يُعيد النظر في الموقف القانوني للمسيحيين ومن ثم بدأت عقود الاحتراب الطائفي والنزاع الديني: المادي/المعنوي، والصلب/الناعم. ثانيها: تعثّر أنظمة ما بعد الاستقلال في إقامة حياة ديمقراطية سليمة من جانب، وترسيخ مبدأ المواطنة في الواقع العملي من جانب آخر. ثالثها: إخفاق المشروع التنموي العربي. رابعها: سقوط الأنظمة الأيديولوجية غير الدينية التي عملت على حماية الأغيار الدينيين في مواجهة الجماعات الدينية.
والمحصّلة، أن تولّدت لدى المسيحيين العرب الكثير من المخاوف والهواجس، ليس فقط حول الهوية أو إمكانية المشاركة من عدمها.. إلخ، وإنما باتت تثير عندهم قلقًا وجوديًا نتج عنه: التغييب والغياب؛ في ظلّ مناخ ساده إضفاء "المقدّس" على المجال العام، والسجال الديني الفضائي، واختلال تكافؤ الفرص، وتناحر ديني/احتقان طائفي على المستوى القاعدي.. إلخ، وهو ما أدى إلى تراجع النهضة العربية بأركانها الثلاثة: النضال، والحداثة، والتنمية.
بلغة أخرى، أنهت دولنا الوطنية قرن النهضة وهي عاجزة عن الاستيعاب التام للمسيحيين. نعم كان هناك حرص على أن تتضمّن النصوص الدستورية التأكيد على مبدأ المواطنة إلا أنّ الفجوة كانت تتسع بين المبدأ الدستوري وتجلياته العملية. وبدلًا من أن تعبّأ الجهود من أجل تكثيف العمل على دعم اندماج المسيحيين أفقيًا كمواطنين - كذلك باقي المواطنين - رأينا الجهد يُبذل في اتجاه معاكس هو اتجاه التعاطي مع عموم السكان رأسيًا، أي كتلة دينية مسيحية مقابل كتلة دينية مسلمة، ما يعني عمليًا العودة إلى نظام الملل العثماني أي الارتداد إلى ما قبل الدولة الحديثة والتنازل عن حصاد قرن النهضة.
نسبة المسيحيين مطلع القرن العشرين كانت تزيد عن الـ25% ولكنها مع مطلع الألفية الجديدة بلغت أقلّ من 5%
وقد عبّر أحد الباحثين عن الوضعية التي آل إليها الوضع فيما يتعلق بملف المسيحيين العرب بما يلي: "إنّ فشل المواطنية يقود دومًا إلى التصلّب الطائفي". لذا شاهدنا طرقًا مختلفة في التعاطي مع المسيحيين العرب في أكثر من دولة. هناك من تعامل معهم كشعبة دينية ملحقة بالحزب الحاكم، وهناك من تواصل معهم عبر السلطة الإكليروسية باعتبارهم طائفة دينية، وهناك من اقتصر تعامله مع نخب عائلية ومصلحية. ما نتج عنه احتجاز الشراكة السياسة في دائرة مغلقة.
وبالتوازي لم تستطع الحركات الدينية أن تقدّم فقهًا دينيًا حاسمًا حيال المواطنة. والنتيجة أن زاد الغياب سواء بالهجرة في الداخل - وهو خيار لجأ له المسلمون أيضًا - أو الهجرة إلى خارج النطاق العربي، وعن الأخيرة يشير أحد الباحثين أنّ نسبة المسيحيين مطلع القرن العشرين كانت تزيد عن الـ25% ولكنها مع مطلع الألفية الجديدة بلغت أقلّ من 5%؛ خاصة بعد اندلاع حربَي العراق وبيروت حول منتصف العقد الأول من القرن الجديد ما مثّل دورة تراجع واضحة للنهضة. ولا شكّ أنّ الهجرة إلى الخارج أو الخروج الكبير للمسيحيين العرب قد مثّل "سلاحًا يضرب العرب أنفسهم بأنفسهم" إذا ما استعرنا تعبير المفكّر الكبير محمد سيّد أحمد.
ولكن مع انطلاق شرارة الحراك في المنطقة مع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تجدّد الأمل في تجديد النهضة العربية. فلقد بدا أنّ هناك تغييرًا قادمًا لا محالة بغضّ النظر عن درجته ونوعيّته.. فهل وفى الحراك بوعوده؟
نتابع في الجزء الثاني من هذا المقال.
(خاص "عروبة 22")