بصمات

لماذا تأخّر العرب وتقدّم غيرهم من المسلمين؟

نشر شكيب أرسلان عام 1930 كتابه الوجيز "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟"، وبيّن فيه أسباب تأخّر المسلمين ومنها الجهل بالدين وبالحضارة الحديثة وابتعاد المسلمين عن جوهر الإسلام القائم على العلم والعمل، والاكتفاء بالمظاهر والشعائر من دون روحها، وغياب الحكم العادل الذي أدّى إلى إخماد روح الإبداع والمبادرة. توقّف أيضًا عند انعدام التربية والتعليم العصري وضعف مؤسّسات التعليم، وعدم الانفتاح على العلوم الحديثة وانتشار روح الاتّكال على الغيب وحده، بدل الجمع بين التوكّل والأخذ بالأسباب، وتفاقم الخلافات المذهبية والقبليّة والقومية التي مزّقت وحدة المسلمين والابتعاد عن الاجتهاد، وتوقّف العقل المسلم عن التفكير الحرّ والإبداعي بحجّة "غلق باب الاجتهاد"، في الوقت الذي كان من أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، تلك التي تعود إلى الدين الإسلامي الذي دانت به قبائل العرب، وتحوّلوا بفضله من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهليّة إلى المدنية.

لماذا تأخّر العرب وتقدّم غيرهم من المسلمين؟

أرجع أرسلان التخلّف القائم في العالم الإسلامي، بالمقارنة في الأوضاع في كلّ من أوروبا الغربية واليابان، إلى إخفاقات المسلمين، لا إلى خللٍ في دينهم.

وجدت هذه الرسالة اهتمامًا واسعًا، إذ تمّت ترجمتها إلى أكثر من لغةٍ، حيث تُرجمت وطُبعت في إندونيسيا إلى اللغة الملاوية، كما تُرجمت إلى الإنجليزية في الهند وطُبعت في لاهور عام 1944، بعنوان "تأخّرنا وأسبابه".

عندما كتب أرسلان كتابه كانت أغلب الدول الإسلامية والعربية محتلّة، بل إنّ بعضها لم يتأسّس أصلًا، وكانت الدول نفسها تمرّ من أوضاع بائسة متشابهة وإنْ بتفاوت. فماذا حقّق المسلمون والعرب بعد نحو 95 عامًا من دعوة شكيب تلك؟.

نهضت دول إسلامية بفضل الاستثمار المكثّف في التعليم وتبنّي سياسات اقتصادية موجّهة نحو التصنيع والتجارة الحديثة

لا شك أنّ أهمّ ما تحقّق هو استقلال الدول الإسلامية في فتراتٍ زمنيّةٍ متباعدةٍ نسبيًّا، وكان السبق للعديد من الدول العربية التي عرف بعض منها تقدّما نسبيًّا منذ خمسينيّات القرن الماضي على الصعيد الاقتصادي والثقافي والفكري، ومن ذلك مصر. وإن استمرّ حال العرب على حاله، فقد عرفت دول إسلامية غير عربية نهوضًا شاملًا من ذلك إندونيسيا ــ استقلّت عام 1945 ــ التي مرّت نهضتها بمراحل، ممّا شكّل تراكمًا أدّى إلى تحقيق نهضة شاملة وأصبحت منذ الألفية الجديدة ضمن مجموعة العشرين الاقتصادية وأكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا.

الأمر نفسه مع ماليزيا التي استقلّت عام 1957، وتوحّدت عام 1963، وانفصلت عنها سنغافورة عام 1965، حيث شهدت بدورها منذ عام 2000 انتقالًا تدريجيًا نحو اقتصاد قائم على التكنولوجيا والخدمات، الأمر الذي عزّز موقعها كقوة اقتصادية صاعدة في جنوب شرق آسيا على الرَّغم من سيادة نظام حكم غير ديموقراطي، (يُقدّر عدد سكان سنغافورة بحوالي 5.87 ملايين نسمة ويُمثل المسلمون حوالي 15.6% منهم ويتبعون مذهب السنّة)، كما عرف اقتصاد سنغافورة قفزةً عملاقةً، فتحوّلت من موقع الدول المتأخرة إلى مصاف الدول المتقدمة خلال أقلّ من نصف قرن.

ويمكن أن نتحدّث عن تركيا أيضًا التي حققت نموًّا اقتصاديًّا هامًّا منذ بداية الألفية الجديدة. لقد كانت هذه الدولة قبل نصف قرن واحد من أكبر تجمّعات الفقر والتخلف والأمّية، غير أنّها تمكّنت من تحقيق معدّلات نموّ مرتفعة والتخلّص من الأمّية وتحقيق الاكتفاء الذّاتي من الغذاء وتبوّؤ المراكز الأولى في الإنتاج والتصنيع والتصدير، وتحجيم البطالة ومحاربة الفقر والقضاء على الأمّية.

لقد تمكّنت تلك الدول الإسلامية من تحقيق ذاك النهوض بفضل تركيزها على الاستثمار المكثّف في التعليم العام والمهني والتكنولوجيا، وتفاني أفراد المجتمع في العمل وتبنّي السياسات الاقتصادية الموجّهة نحو التصنيع والتجارة الحديثة، مثل الاستثمار في الخدمات عالية الإنتاجية ودمج التكنولوجيا في الاقتصاد والاعتماد على الابتكار والانفتاح على الخارج، بالإضافة إلى عوامل أخرى كأهمية الموقع الاستراتيجي وبعض الموارد الطبيعيّة.

ركائز التقدّم تستند إلى التربية السليمة والتعليم العصري والاستناد للعقل والتفكير الحر والانفتاح على العلوم الحديثة

أمّا العرب، وبعد عقودٍ من الاستقلال فلم يتمكّنوا، على الرَّغم من إمكانياتهم وثرواتهم الطبيعية والبشرية والموقع الجيوسياسي المتنوّع، من تحقيق نهضةٍ شاملةٍ، حيث إنّ حجم الأمّية مفزعٌ (يقارب 54 مليون أمّي) كما تُعتبر الدول العربية من بين أقل الدول إنفاقًا على التعليم في العالم (نحو 3.4% من الدخل القومي الإجمالي العربي عام 2021). موازاةً مع تواضع جودة التعليم وتأخّر التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي، في الوقت الذي ارتفع فيه حجم العاطلين عن العمل (نحو 80 مليون عاطل) وخاصّةً من حاملي الشهادات العليا وتفاقم العجز الغذائي.

فهل يعني ذلك أنّ الدول الإسلامية التي حقّقت تقدّمها قد استأنست واستفادت من مضمون رسالة شكيب أرسلان، التي أكّد فيها أنّ ركائز التقدّم تستند إلى التربية السليمة والتعليم العصري والاستناد للعقل والتفكير الحرّ والانفتاح على العلوم الحديثة والابتعاد عن روح الاتكال على الغيب، في حين تجاهل العرب مضمون تلك الرسالة ولم يستفيدوا من عِبَرِها؟

أليس العديد من العوامل التي ساعدت على نجاح البلدان الإسلامية المذكورة أعلاه، غير العربية، هي ما دعا إليه شكيب أرسلان منذ نحو قرن من الزمان؟. يبدو أنّنا بحاجةٍ لإعادة صياغة عنوان إشكاليّة شكيب أرسلان من: "لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟" إلى: "لماذا تأخّر العرب؟ ولماذا تقدّم غيرهم من المسلمين؟".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن