بصمات

الفضاء الثقافي والإثنية!

في زمننا الراهن، نشهد صعود آدابٍ تنتمي إلى عوالم لغوية وقومية أو جغرافية، يعود ذلك إلى بروز النزعات القومية منذ القرن الثامن عشر، ويمكننا القول إنّ ذلك يُعبّر عن حساسيّات وذكريات ولغات، فثمّة رواية أميركية جنوبية لاتينية تمتلك مواصفات عمومية (الواقعية السحرية) ورواية أفريقية تدلّل على معاناة الزنوجة والاستعمار، ورواية روسية - صينية.

الفضاء الثقافي والإثنية!

النزعة الوطنية أو القومية أو الإثنية تسعى إلى إبراز مشاهير الأدب فتنزع إلى نسبتهم إلى أصولهم. هكذا يفتخر اللبنانيون بجبران خليل جبران، الذي وُلد في بشرّي وهاجر مُبكرًا إلى الولايات المتحدة الأميركية وكتب بالإنكليزية والعربية. إنّ شهرته ككاتب أميركي وهو صاحب كتاب "النّبي" (من بين الكتب الأكثر مبيعًا باللغة الإنكليزية) شجّعت اللبنانيين على تبنّيه، خصوصًا أنّ بعض أعماله تُعبّر عن البيئة اللبنانية. والأمر نفسه ينطبق على ألبير قصيري (Albert Cossery)، الروائي المصري من أصل سوري؛ استقرّ في فرنسا منذ 1945، ولم يعدْ إلى مصر وكلّ كتاباته بالفرنسية (تُرجم بعضها إلى العربية)، وهو كاتب فرنسي لم يحصل على الجنسية الفرنسية، ومع ذلك لا تُغفل أصوله المصرية (أو العربية) خصوصًا أنّ رواياته تعكس أجواء مصر وخصوصًا الناس البسطاء.

منذ القرن السابع عشر نعيش في فضاء ثقافيّ غربيّ في الأفكار والعلوم

لكنّ الأمر يختلف حين يتعلّق الأمر بعالم الأفكار والعلوم. هاجر إيهاب حسن (1925-2015) تاركًا مصر إلى الولايات المتحدة عام 1946، ولم يعد إلى مسقط رأسه. حصل على الجنسية الأميركية ودرس في جامعاتها وكلّ ما كتبه كان بالإنكليزية، بما في ذلك سيرته "الخروج من مصر". لم يُعرفْ في بلده أو في العالم العربي إلّا متأخرًا بعد ترجمة بعض أعماله، التي تُعتبر من الأعمال المبكّرة التي ناقشت أفكار ما بعد الحداثة. وأبرز أعماله "دراسات في الرواية الأميركية، نحو أدب ما بعد حداثي، ومنعطف ما بعد الحداثة".

ويصبح الأمر أكثر عرضةً للنقاش في حالة أحمد زويل (Ahmed Zewail)، الذي درس في مصر وتابع تحصيله وعمله في الولايات المتحدة الأميركية، وحاز "جائزة نوبل للكيمياء"، ما جعل أبناء جلدته يفتخرون بأصوله، وهو نفسه لم يُنكر مصريّته فغادر إلى بلاده ليخدمها.

إنّنا في عالمٍ يمكن لنا أن نتعقّب أصول الأفراد المهاجرين الذين ينبغون في بلاد الغرب. ونردّهم إلى أصولهم الإثنية، إلّا أنّ ذلك لا يُلغي حقيقة أنّنا ومنذ القرن السابع عشر نعيش في فضاءٍ ثقافيّ غربيّ في الأفكار والعلوم. فما كان لإيهاب حسن أن يكون أحد روّاد فكر ما بعد الحداثة، لولا أنّه انتسب إلى الفضاء الثقافي العالمي، ولا كان لأحمد زويل مهما بلغ نبوغه أن يُنجز أبحاثه لو بقي في مصر، حيث لا يجد البيئة العلمية التي تسمح له بإنجازات ذات طابع عالمي وكوني.

وإذا كنّا اليوم نستطيع أن ننسب الأفراد إلى أصولهم الإثنية إلّا إنّ ذلك قليل الأهمية في عالمٍ تُهيمن عليه ثقافة علمية وفكرية. ويمكن للجماعات أن تتمسّك بثقافاتها الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية وأديانها، ومع ذلك لا يوجد عِلْمٌ صيني، أو روسي، أو عربي، أو هندي. يمكنك أن تبرع في التقنيات، ولكنك لا تستطيع أن تنتج علمًا قوميًا، أو فلسفة عربية، أو تركية، أو صينية، فعالَم الأفكار الحديثة هو عالم واحد، على الرَّغم من محاولات صياغة أفكار على قياس اللغات أو القوميات. فالاشتراكية والليبيرالية والوجودية والبنيوية كلّها مدارس نشأت في الفضاء الثقافي الغربي.

العربية كانت لغة فضاء ثقافيّ اتّسع لأبناء إثنيات مختلفة

هذا في زمننا الذي عرف صعود النزعات القومية، أمّا في حقبات وعصور ثقافية سابقة لم يكن للانتماء الإثني أو اللغوي أي دلالة، ومع ذلك فإنّ النزوع القومي دفع إلى نسبة أفرادٍ برزوا في فضاء الثقافة اليونانية (قبل الميلاد) أو الفضاء الثقافي الروماني - المسيحي، أو الفضاء الثقافي العربي، إلى أصولٍ ما كان لها أي دلالة سوى تلبية نزعات برزت مع احتدام المشاعر القومية وصراع الهويات الإثنية. فمع صعود الفكرة الفينيقية في لبنان تمّت نسبة هوميروس وفيثاغورس، وطاليس، وإقليدس وغيرهم إلى أصولٍ فينيقية. ومع صعود النزعة الفارسية، نُسب كلّ الفلاسفة والعلماء الذين نبغوا في إطار الفضاء الثقافي العربي إلى فارس وهذا غير صحيح، فكان الفلاسفة والعلماء من أصول مختلفة، عرب وفرس وأتراك وأمازيغ وغير ذلك. فلا معنى لأن يكون الفارابي من أصولٍ تركية أو ابن سينا من أصولٍ فارسية. كما يحدث اليوم أن يُنسب القدّيس أوغستين إلى أصول أمازيغية وهو أبرز آباء الكنيسة الغربية.

كانت العربية لغة فضاءٍ ثقافيّ اتّسع لأبناء إثنيات مختلفة لم يبرزوا إلّا في إطار هذا الفضاء الإسلامي - العربي، حين كانت اللغة العربية لغةً عالميةً وموئل حداثة عصرها. ومرةً أخرى نعود إلى ما قاله أبو الرّيحان البيروني (973-1048) الذي وُلد في خوارزم (أوزبكستان)، وعاش في غزنة (أفغانستان) وكتب عن الهند. ولم يعشْ في أي إقليمٍ عربي اللغة، يقول البيروني: "وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلّت إلى الأفئدة وسرَت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة. وإن كانت كلّ أمة تستحلي لغتها التي ألفَتْها واعتادَتْها واستعملَتْها في مآربها، فإنّي في كلّ واحدة دخل ولها متكلّف، والهجو بالعربية أحبّ إليّ من المدح بالفارسية. وسيُعرف مصداق قولي من تأمّل في كتاب علمٍ قد نُقل إلى الفارسية، كيف ذهب رونقه وكسف باله واسودّ وجهه وزال الانتفاع به، إذ لا تصلح هذه اللغة إلّا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية". 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن