اقتصاد ومال

اشتراكية الصين... من التنمية ومكافحة الفقر إلى الصدام مع الغرب!

يبدو أنّ الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين سيستمرّ لفترةٍ طويلةٍ، لأنّ المصالح مُتعارضة بين قوةٍ اقتصاديةٍ آفلةٍ عليها أن تُخلي موقع القيادة بعد أن فقدت غالبيّة أسبابها، وأخرى بازغة ولا رادّ لتقدّمها للإمساك بذلك الموقع!.

اشتراكية الصين... من التنمية ومكافحة الفقر إلى الصدام مع الغرب!

من سُخريات القدر أنّ الولايات المتحدة كانت الأكثر ترحيبًا بالإصلاح الاقتصادي الصيني، قبل 45 عامًا عندما تجسّد في سياسة الانفتاح الاقتصادي. واعتبرت ذلك الانفتاح انتصارًا للنموذج الرأسمالي وتمدّده نحو العملاق الصيني، بينما اعتبره قائد التحوّل الصيني دينغ شياو بينغ (Deng Xiaoping)، تحوّلًا نحو اقتصاد السوق الاشتراكي لتطوير وتعزيز النموذج الاشتراكي الصيني.

التطوّر الاقتصادي الصيني... نموذج مُلهم لمن لديه إرادة النهوض

من المُفيد لمَن لديهم إرادة تحقيق النهوض الاقتصادي، أن يتأمّلوا النموذج الصيني الذي حقّق النهوض التراكُمي ومكافحة الفقر في اقتصادٍ منفتحٍ على العالم، استنادًا على سياساتٍ اقتصاديةٍ - اجتماعيةٍ تحقّق النموّ والعدالة النسبية، واحتشادٍ ادّخاريّ واستثماريّ، بحيث تراوحت معدّلات الادّخار والاستثمار حول ربع النّاتج المحلي الإجمالي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية وحتى عام 1980، قبل أن ترتفع كلّ منهما لأكثر من 40% من النّاتج المحلي الإجمالي على مدار أربعة عقود ونصف.

ارتفع النّاتج القومي الصيني المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية إلى 131% من نظيره الأميركي عام 2024

لقد تمكّن ذلك النموذج من تحقيق أطول دورة نموٍّ اقتصاديّ مرتفعٍ ومتواصلٍ في التاريخ الحديث، إذ بلغ معدّل النموّ الحقيقي للنّاتج المحلّي الإجمالي وفقًا لبيانات البنك وصندوق النقد الدوليَيْن نحو 6.4% سنويًا خلال الفترة ما بين عامَيْ 1965 و1980. وارتفع المعدّل إلى أكثر من 10% سنويًا في المتوسط خلال الخمسة وثلاثين عامًا التالية. ويدور المعدّل حول مستوى 5% في السنوات العشر الأخيرة.

وفي السياق نفسه وبحسب المصادر نفسها، ارتفع النّاتج القومي الإجمالي الصيني المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف السائد آنذاك من 10.1% من نظيره الأميركي عام 1980، إلى 39.1% منه عام 2010، ثمّ إلى 64.2% منه عام 2024. وارتفع النّاتج القومي الصيني الحقيقي المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية من 51.6% من نظيره الأميركي عام 2000، إلى 69.8% منه عام 2010، ثمّ إلى 131% منه عام 2024.

أمّا صادرات الصين التي لم تكن تتجاوز 8% من نظيرتها الأميركية عام 1980، فقد ارتفعت إلى 31.9% منها عام 2000، وإلى 123.5% منها عام 2010، ثم إلى 174% منها عام 2022 وفقًا لبيانات "منظمة التجارة العالمية".

مكافحة الفقر... إنجاز صيني مُذهل حتى للبنك الدولي

قامت الدولة بعد تأسيس "جمهورية الصين الشعبية" بإنجاز التحوّل من بلدٍ غارقٍ في الفقر والأمّية والمرض ومطحونٍ بحربٍ أهليةٍ وحربٍ وطنيةٍ عظمى ضدّ الاحتلال الياباني الفاشي، واقتصادٍ مُتخلّفٍ ومحكومٍ بنظم وعلاقات إنتاج شبه إقطاعية، إلى بلدٍ يتقدّم بخطى هائلةٍ في التعليم والبحث العلمي والتدريب والرعاية الصحية، واقتصادٍ يُحقّق منجزات التحديث الرأسمالي أي ثورتَيْ الزراعة والصناعة ضمن دولةٍ عمّاليةٍ تحت سلطة وإدارة الحزب الشيوعي، وضمن آلياتٍ فعّالةٍ لمكافحة الفقر عبر آليات التشغيل والأجور والتحويلات الاجتماعية والضرائب ودعم الخدمات العامة.

المجتمع الصيني يتّجه لأن يكون بلا فقر من أي مستوى

وتمكّنت الصين من خفض عدد الفقراء الذين يعيشون بأقل من 1.25 دولار عام 2005، من 835 مليون نسمة أي 84% من إجماليّ السكان عام 1981، إلى 683 مليونًا يُعادلون 60.2% من السكان عام 1990، ثمّ إلى 208 ملايين يُعادلون 15.9% من السكان عام 2005، فإلى صفرٍ في الوقت الراهن بعد أن تمّ إنهاء الفقر المُدقع تمامًا حتى بعد أن تمّ رفع خط الفقر الدولي مؤخّرًا إلى 3 دولارات للفرد يوميّا. أمّا مَن يعيشون بأقلّ من 4.2 دولارات للفرد يوميًا فقد بلغت نسبتهم 0.1% من السكان عام 2021، وانخفضت إلى الصفر أيضًا في العام الحالي. أمّا من يعيشون بأقلّ من 8.3 دولارات للفرد في اليوم فقد شكّلوا 17% من السكان عام 2021، وهم الفئة الأفقر في الصين حاليًا، وهي أيضًا في سبيلها إلى التلاشي في مجتمعٍ يتّجه لأن يكون بلا فقرٍ من أي مستوى!.

إنّها صاحبة الإنجاز الأعظم عالميًا في مكافحة الفقر، وهو ما دفع "البنك الدولي" إلى إصدار كتابٍ خاصٍّ بعنوان "أربعة عقودٍ من تخفيض الفقر في الصين".

الاشتراكية واستنهاض الفعّالية الاقتصادية - الاجتماعية عبر القطاع الخاص

تمتّع النموذج الصيني بدرجةٍ عاليةٍ من اشتراكية الإنتاج والتوزيع في عهد الزعيم الصيني المؤسّس ماو تسي تونغ عند مستوياتٍ من الفقر الموروث من اقتصادٍ كان مُدمّرًا بصورة شبه كلّيةٍ عند تأسيس جمهورية الصين الشعبية بفعل الحرب الأهلية والنضال ضدّ الاحتلال الياباني. لكنّ الاقتصاد الصيني أصبح مُختلطًا منذ الانفتاح الاقتصادي الواسع النطاق بدايةً من عهد الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ والسماح للرأسمالية الأجنبية والمحلّية بالاستثمار والعمل والملكية في الصين.

يصعب على الغرب أن يُخضع اقتصادًا بحجم الاقتصاد الصيني

وتُشير البيانات بوضوحٍ إلى أنّ الاستثمارات الخاصّة التي كانت تمثّل نسبةً هامشيةً من إجماليّ الاستثمارات حتى سبعينيّات القرن العشرين، ارتفعت إلى 33.8% من إجماليّ الاستثمارات الثابتة في عام 1990، وارتفعت لتبلغ 45.8% من تلك الاستثمارات عام 1998. وواصلت الارتفاع حتى أصبح القطاع الخاص (محلّي وأجنبي) بكلّ أحجامه، يساهم في نحو 60% من النّاتج المحلي الإجمالي. لكنّ الدولة وشركاتها العملاقة وسيطرتها على سياسات إدارة الاقتصاد، وعلى الحلقة التكنولوجية، وعلى المعادن النادرة اللازمة للصناعات عالية التقنيّة، تجعلها في موقعٍ مسيطرٍ وحاكمٍ للتطوّر الاقتصادي في الصين.

الصدام مع الولايات المتحدة مقدّمة لتسوية ضرورية للطرفَيْن

إنّ اقتصادًا بحجم الاقتصاد الصيني ومستوى تطوّره وعدد مستهلكيه، وعلاقاته الدولية المفتوحة، وقيادته لتحالف "بريكس" العملاق، وإنتاجه الضروري للمستهلكين وللصناعات في الغرب عمومًا، يصعب على الغرب، والولايات المتحدة، أن يُخضعه أو يُحطّمه، كما حلم بعض الموتورين في الولايات المتحدة عندما طالب بعض أعضاء الكونغرس بفرض رسومٍ جمركيةٍ بمعدّل 500% على الواردات من الصين لتحطيم الاقتصاد الصيني، جاهلًا بأنّ تلك الإجراءات المجنونة ستُشعل التضخّم في الولايات المتحدة وتدمّر سلاسل الإنتاج التي تُشكّل الصين جزءًا محوريًا منها، ولا مفرّ من الوصول إلى تسويةٍ مع الصين.

لكنّ الصين مطالبة بتنشيط الطلب المحلي عبر المزيد من إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع حصّة الشرائح الدنيا من الدّخل الذي يتحوّل إلى طلبٍ فعّالٍ يُطلق مضاعف الاستثمار المحلّي كمحورٍ لاستمرارية النهوض الاقتصادي الراسخ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن