صُمّمت اتفاقية "أوسلو" على نحو يسمح للاحتلال بالبقاء بأقلّ التكاليف السياسية. في 13 سبتمبر 1993 وقّعها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
لم تنجح أضواء الكاميرات في تجميل الوجه الحقيقي للاتفاقية، التي جرى التفاوض عليها من فريق فلسطيني لم تكن لديه خطة أو معه خرائط، ولا كان يُتقن أعضاؤه اللغة الإنجليزية التي يتفاوضون بها – كما صرّح المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور إدوارد سعيد.
بتعبيره فإنه "سلام بلا أرض"، وبتعبير مقارب للأستاذ محمد حسنين هيكل فإنه "سلام الأوهام".
كانت تجربة مفاوضات مدريد خريف عام 1991 ماثلة أمام القيادة الفلسطينية في تونس.
خشيت أن يُسحب البساط من تحت أقدامها، أو أن تبرز قيادة بديلة، فقفزت إلى مفاوضات سرّية في أوسلو.
سمح عرفات بنوع من "الزواج السرّي" بين السلطة والمقاومة، غير أنّ إسرائيل اخترقت صفوف رجاله واغتالته
في العاصمة الإسبانية مدريد لم تكن هناك مفاوضات حقيقية، ولا كان واردًا التوصّل إلى أية نتائج حتى لو استمرّت المفاوضات عشر سنوات، حسبما صرّح وقتها إرييل شارون.
أصرّت الحكومة الإسرائيلية أن يكون التمثيل الفلسطيني من ضمن وفد مشترك مع الأردن شرط ألا يكون بينهم من ينتمون إلى المجلس الوطني الفلسطيني.
حاولت بكل الطرق أن يتركّز جدول الأعمال على التعاون الإقليمي مع الدول العربية دون أدنى استعداد لأية انسحابات من الأراضي المحتلّة.
وفي العاصمة النرويجية أوسلو تصوّر عرفات أنّ بوسعه تحسين شروط اللعبة عند وضع أقدامه على أرض السلطة.
سمح بنوع من "الزواج السرّي" بين السلطة والمقاومة، غير أنّ إسرائيل حاصرته، اخترقت صفوف رجاله، واغتالته بسمّ في النهاية، دون أن يجرؤ أحد من أنصاره على طلب تحقيق دولي في الاغتيال!
في لحظة منحوه جائزة "نوبل للسلام".. وفي لحظة تالية اعتبروه إرهابيًا وعقبة أمام هذا السلام!
وقّع عرفات على الاتفاقية باسم "منظمة التحرير الفلسطينية".
كان ذلك مقصودًا حتى يبدو التوقيع اعترافًا بإسرائيل من الشعب الفلسطيني كلّه دون أن يكون هناك اعتراف مقابل.
في أعقاب "أوسلو" مباشرةً، استمعتُ من رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون – "أبو الأديب" أثناء لقاء خاص في بيت صديق فلسطيني مشترك بضاحية "مدينة نصر" في القاهرة يقول، وهو يقف منتشيًا: "أكّلهم أبو عمّار الأكلة"!
كان صادقًا في مشاعره، يعتقد أن عرفات قد خدعهم، وتمكّن من دخول الأراضي المحتلّة، وأنه سوف يتمكّن في النهاية من بناء دولة مستقلّة لها سيادة، وعاصمتها القدس.
كان ذلك ما يعتقد فيه عرفات نفسه. حاول أن يؤسّس لعمل مسلّح سرّي، وأن يبني علاقات مختلفة مع فصائل المقاومة الأخرى تحول دون تصفيتها، قبل أن يكتشف في الساعات الأخيرة من حياته أنه هو الذي "أكل الأكلة المسمومة"، وأنّ اللعبة قد صُمّمت لتؤول قيادتها إلى نوعية مختلفة من الفلسطينيين على مقاس الاشتراطات الإسرائيلية، وأنّ قضيته دخلت النفق المظلم على يديه.
إسرائيل مزّقت الاتفاقيات التي وقّعتها... وأخذ الفرقاء الفلسطينيون يتصارعون على أشلاء وطن وأطلال سلطة
في مواجهة الموت أبدى شجاعة استثنائية بصرخته المدوية على أعتاب "المقاطعة" مقرّه الرئاسي المحاصر في رام الله: "بل شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا".
كان ذلك آخر ما كان بوسعه أن يبذله للقضية التي أعطاها أكثر من أيّ أحد آخر.. وخذلها كما لم يخذلها أحد.
الأفدح أنّ إسرائيل مزّقت الاتفاقيات التي وقّعتها. توسّعت في بناء المستوطنات، وبنت جدارًا عنصريًا يمزّق الأرض ويحيل ما تبقى من فلسطين التاريخية إلى أشلاء، ومع ذلك أخذ الفرقاء الفلسطينيون بأثر الانشطار الفادح عام 2007 يتصارعون على أشلاء وطن وأطلال سلطة.
لم يسبق في التاريخ السياسي الحديث أن تولّت حركةٌ تحريرَ السلطة قبل أن تحرّر أراضيها، وتعرف حدودها، وتنشئ قواعد سيادتها الكاملة عليها، أو على جزء منها كنقطة انطلاق لاستكمال مهمتها في تحرير بقية الأراضي المحتلة.
في مراجعة شاملة لاتفاقية "أوسلو" في ذروة السجال الحاد حولها مطلع 1995، سألتُ الدكتور إدوارد سعيد: "إذا لم تكن سلطة الحكم الذاتي مرشّحة للتحوّل إلى دولة، فما مصير أو مستقبل هذه السلطة؟!".
أجاب بما هو نصه: "إذا أمعنتَ النظر في قراءة نص "أوسلو"، فسوف تجده يقول "إنّ من حقّ القوات الإسرائيلية أن تدخل أراضي الحكم الذاتي لو اعتَقَدت، أو استشعرَت، أنّ مصالحها مهدّدة".. هذا النص يكفل لإسرائيل من الناحية الواقعية فرض سلطة الاحتلال المباشرة في أيّ وقت تريد، وممارسة حقّ القتل عندما تقرّر ذلك".
بتوقيت مقارب سألتُ فاروق قدومي أحد القادة التاريخيين لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد كنتُ ألتقيه كلّما مرّ على القاهرة، عن مصير القدس، واحتمالات التفريط فيها في أية مفاوضات لاحقة.. صنع بيده اليمني شكلَ مسدّس، ثم لوّح بيده كأنّ رصاصة تنطلق.. قائلًا: "هذا مصير من يفرط فيها".
"من سيُنزل أعلامنا: نحن أم هم؟
ومن سوف يتلو علينا معاهدة الصلح، يا ملك الاحتضار"
كانت تلك نبوءة للشاعر الفلسطيني محمود درويش استبقت اتفاقية "أوسلو" بعام واحد، غير أنه بقوة إرادة الشعب الفلسطيني أمام سيناريوهات اقتلاعه من أرضه ونفي أية حقوق له لم ترفع الرايات البيضاء.
(خاص "عروبة 22")