اقتصاد ومال

الاقتصاد العربي والحاجة إلى التأريخ

محمد زاوي

المشاركة

اهتمّت مشاريع فكرية وتأريخية بالوطن العربي كبناءٍ فكريّ وإيديولوجيّ، اهتمّت به أيضًا كتاريخ للديانات والمعتقدات، كنظم وسياسات، كتشريعات وقوانين، كتقاليد وعادات. لكنّ اهتمامها بالتاريخ الاقتصادي للوطن العربي بقي ضعيفًا، وغير مؤسّسٍ، إذ ما هي إلّا أبحاث جامعية هنا وهناك، وما هي إلّا أوراق بحثية في هذه الفترة التاريخية أو تلك، وما هو إلّا اهتمام عفوي أو تلقائي بهذا النمط من الإنتاج دون غيره، وما هو إلّا تحليل اقتصادي لفترة تاريخية بعينها من دون بحث تاريخي باستثناء إعمالٍ إيديولوجيّ أو منهجيّ في المتوفّر من المعطى التاريخي.

الاقتصاد العربي والحاجة إلى التأريخ

هذا المنحى من الإهمال جعل تصوّر المواطن العربي لتاريخه الاقتصادي قاصرًا ومضطّربًا ومشوَّشًا، بل إنّ عددًا كبيرًا من المثقّفين العرب يتكلّمون عن الثقافة والسياسة وكأنّهما نتاج جوهرَيْهما وليس نتاجًا اجتماعيًا تكوّن وتطوّر منذ زمن، فيه القديم، وفيه الوسيط، وفيه الحديث. لا ينتبهون إلى أنّ "التعابير المكثّفة" (بتعبير فلاديمير لينين) والأكثر تجريدًا لا تُغني عن جوهرها الاقتصادي والاجتماعي.

يجب أن نتساءل إذن: ما الذي يُفسّر هذا الضعف في التأريخ للاقتصاد العربي؟ هناك تفسيرٌ متعلّقٌ بالتاريخ العربي على وجه العموم، لأنّ عملية التأريخ لم تتأسّس في المجتمع العربي كصنعةٍ وحرفةٍ بكلّ ما يحمله هذا التحديد من معنى. وذلك لأن التأريخ مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بتقدّم قوى الإنتاج الصناعية، وحيث تتخلّف الصناعة يتخلّف التأريخ بما هو توظيف لمختلف العلوم في قراءة "الشواهد" وكشف "الأحداث التاريخية" (راجع كتابَي عبد الله العروي: "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" و"مفهوم التاريخ"). تتقدم قوى الإنتاج الصناعية بتقدّم العلوم الحديثة (الفيزياء / الكيمياء / البيولوجيا / إلخ)، وبتقدّمها (قوى الإنتاج الصناعية) تتقدّم علوم أخرى كعلوم التاريخ والآثار والأحياء واللّسانيات لما توفّره من وسائل متقدّمة للكشف والبحث.

العقل العربي يهتمّ بتاريخ أفكاره وفلسفاته أكثر بكثير من اهتمامه بتاريخ اقتصاده وتطوّر بناه الإنتاجية

التفسير الثاني متعلقٌ بالمنطق العربي، حيث تَحُول الكلاميّات وإعادة إنتاجها بين قدرات هذا المنطق وبين فهم الاقتصاد كظاهرةٍ زادها الوعي الحديث ظهورًا وبروزًا، كما جعل العقل البشري أكثر قدرةً على الإحاطة بمعطياتها ومساراتها من نشأتها إلى اليوم، مرورًا بمختلف الفترات التاريخية لتطوّرها.

العقل العربي متعلقٌ بتطوّر الإيديولوجيات، بخاصّة الدينية منها، أكثر ممّا هو متعلّق بتطوّر إنتاجه المادي. وإنّه إذا همّ بدراسة التاريخ العربي الحديث، يهتمّ بتاريخ أفكاره وفلسفاته الدينية وغير الدينية أكثر بكثير من اهتمامه بتاريخ اقتصاده وتطوّر بناه الإنتاجية. وحيث عمّر النظام الاجتماعي الرأسمالي ــ غربيًا وعالميًا ــ قرابة خمسة قرون، ما زال المثقّف العربي ينظر إلى الغرب كنقيضٍ إيديولوجي، وليس نقيضًا اجتماعيًا اقتصاديًا كأساس لأيّ وجود آخر، إيديولوجي أو سياسي.

اعتملت في المنطقة العربية حركة تاريخية غنيّة، إذ عرفت هجرات بشرية متنوّعة، وتأسّست فيها حضارات (البابلية / الآشورية / الفرعونية / الإسلامية / إلخ) واتّسعت فيها أخرى (الرومانية / الفارسية / المغولية... إلخ)، بل ربما كانت في بعض أجزائها مسكنًا لأقدم إنسان على وجه الأرض (كما تشهد بذلك بعض الاكتشافات في المغرب). ولعلّها في الكثير من أجزائها قد عرفت "حياةً بدائيةً" خاصّةً بها لم تحظَ بقدرٍ كافٍ من الدراسة إلى اليوم. هما مبحثان إذن: اقتصاد عربي ما قبتاريخي، واقتصاد آخر تاريخي. الأول "بدائي" سبق الثاني، يجب دراسته في خصوصيّته الشرقية لا بإسقاط نتائج الدراسات الغربية عليه. أمّا الثاني، فقد نشأ وتطوّر على مراحل يجب دراستها في خصوصيّاتها الاستعبادية والاستقطاعية والرأسمالية وإن كانت جزءًا من التطوّر العام للاقتصاد العالمي.

ربط الفكر العربي بإنتاجه المادي الاقتصادي أساس كلّ تحديث ثقافي أو سياسي

وعن هذَيْن المبحثَيْن تتفرّع جملة قضايا، لا تزال في حاجةٍ إلى دراسة تاريخية وافية يمكن إجمالها في ستّ مسائل أساسية هي: الحياة الاقتصادية البدائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اقتصاد الحضارات العبوديّة في المنطقة، تشكّل النظام "الإقطاعي" في المنطقة العربية، المحاولات العربية الأولى للتحديث الاقتصادي الذاتي، الاقتصاد الاستعماري في المنطقة العربية، مشروع الرأسمال العربي ومعيقاته.

من شأن دراسةٍ وافيةٍ لهذه العناصر أن تسهم في بناء سرديّةٍ تاريخيةٍ للاقتصاد العربي، في أفقٍ جعلها سرديّة مُختصرة تطوي القرون والتغيّرات والتحوّلات الجزئية في تعاقبٍ تاريخيّ مُفسَّرٍ اقتصاديًا، وتربط الفكر العربي بإنتاجه المادي (الاقتصادي)، فذلك أساس كلّ تحديث ثقافي أو سياسي عربي، فكلّما ابتعدنا عن الاقتصاد، فَسّرنا واقع الإنسان العربي بعوامل غير ملموسة، فيتعزّز تخلّفه النظري والفكري ويتعزّز معه تخلفٌ آخر في "ممارسته العملية".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن