بصمات

جنرالاتُ السياسة ومآسينا العربيّة!

عَادَةً مَا يَعْشَقُ جِنِرَالَاتُ السِّلَاحِ الْحَيَاةَ الْعَسْكَرِيَّةَ ذَاتَ الْبِنْيَةِ الصَّارِمَةِ، الْقَائِمَةَ عَلَى تَرَاتُبِيَّةِ الْقِيَادَةِ، الَّتِي تَرْتَبِطُ لَدَيْهِمْ بِالِانْضِبَاطِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْجَازِ وَالْحَسْم. إِنَّهُ نَمَطُ الْحَيَاةِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ التَّكَيُّفَ مَعَ سِوَاهُ، فَإِذَا مَا وَلَجُوا إِلَى الْعَالَمِ السِّيَاسِيِّ، الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَقُومَ عَلَى التَّعَدُّدِيَّةِ وَالتَّنَافُسِيَّةِ وَالدِّيمُوقْرَاطِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ غَالِبًا مَا يَخْتَزِلُونَ دِيمُوقْرَاطِيَّتَهُ فِي الشَّكْلِ الْإِجْرَائِيِّ، تَجَنُّبًا لِجَوْهَرِهِ اللِّيْبِيرَالِيِّ، الْحَاضِنِ لِلذَّاتِ الْفَرْدِيَّةِ بِكُلِّ مُقَوِّمَاتِهَا وَرَغَبَاتِهَا وَمُيُولِهَا، الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ، وَلَا تَقْبَلُ الْخُضُوعَ وَالْإِذْعَان. فَهَذِهِ الْمُفْرَدَاتُ تَتَبَدَّى لِلْجَنَرَالِ نَزَعَاتٍ عَبَثِيَّةً، حَامِلَةً لِبُذُورِ تَفَسُّخٍ اجْتِمَاعِيٍّ وَفَوْضَى سِيَاسِيَّةٍ، يَتَوَجَّبُ تَنْظِيمُهُمَا لِيَصِيرَ الْمُجْتَمَعُ مُتَمَاسِكًا غَيْرَ مُنْقَسِمٍ بَيْنَ فُرَقَاءَ مُتَصَارِعِينَ، وَيَصِيرَ الْوَطَنُ آمِنًا غَيْرَ مُخْتَرَقٍ مِنْ قِبَلِ أَجَانِبَ مُتَآمِرِين.

جنرالاتُ السياسة ومآسينا العربيّة!

هَكَذَا يُحَاوِلُ الْجِنِرَالُ السِّيَاسِيُّ التَّحَكُّمَ فِي الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، تَنْمِيطًا لِلْكُتْلَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَحْكُمُهَا، وَصبَّها فِي وَعْيٍ بِالتَّجَانُسِ يُنْكِرُ الِاخْتِلَافَ أَوْ يَرْفُضُهُ، تَحْقِيقًا لِأَهْدَافٍ كُبْرَى يَتَصَوَّرُهَا الْجِنِرَالُ ضَرُورِيَّةً لِشَعْبِهِ، تَحْكُمُهَا اعْتِبَارَاتُ السِّيَادَةِ، فَلَا يَفْتَرَضُ أَنْ يُعَارِضَهَا شَخْصٌ، وَإِلَّا صَارَ مُوَاطِنًا غَيْرَ صَالِحٍ، يَجِبُ اجْتِثَاثُهُ كَيْ لَا يُعْدِيَ الْآخَرِينَ، حَيْثُ الْجَمْعُ هُنَا يَسْبِقُ الْفَرْدَ، وَالْوَطَنُ يَعْلُو عَلَى الشَّخْصِ، وَإِنْ صَارَ الْوَطَنُ فِي النِّهَايَةِ مُجَرَّدَ شَخْصٍ رَاوَدَتْهُ أَحْلَامُ الْهَيْمَنَةِ، فَقَامَ بِنَفْيِ الْجُمُوع.

الاستبداد يُـمثّل بنية مُعقّدة تقود إلى الفساد والرّكود والتخلُّف

يَعْتَقِدُ الْجِنِرَالُ أَنَّهُ الْأَمِينُ على أَحْلَامِ الْأُمَّةِ، الْقَادِرُ وَحْدَهُ عَلَى تَحْقِيقِهَا، بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِبْدَادِ وَالْعَدْلِ بَعِيدًا عَنِ الْأَحْزَابِ الْمُتَصَارِعَةِ، وَالْجَمَاعَاتِ الضَّاغِطَةِ، الْفُرَقَاءِ فِي الْمُيُولِ الْإِيدْيُولُوجِيَّةِ، وَالْمَوَاقِعِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَفِي رُؤْيَةِ الْعَالَمِ، وَفِي أُمُورٍ أُخْرَى تَجْعَلُ إِدَارَةَ الشَّأْنِ الْعَامِّ نَتَاجًا لِعَمَلِيَّاتِ مُسَاوَمَةٍ دَقِيقَةٍ، وَتَفَاوُضٍ دَائِمٍ، وَتَفْرِضُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَدَنِيِّ حُدُودًا وَقُيُودًا لَا يَسْتَطِيعُ تَخَطِّيَهَا بِسُهُولَةٍ، وَهَذَا مَا لَا يُطِيقُهُ الْجِنِرَالُ كَوْنَهُ حَاكِمًا اسْتِثْنَائِيًّا، وَقَائِدًا ضَرُورِيًّا، وَمَالِكًا حَصْرِيًّا لِلْبَصِيرَةِ السِّيَاسِيَّة! غَيْرَ أَنَّ التَّارِيخَ يُعْطِينَا، مُجْتَمَعَاتٍ وَأَفْرَادًا، دَرْسًا رَائِقًا وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِبْدَادَ نَفْسَهُ لَا يَكُونُ عَادِلًا أَبَدًا، إِذْ يُمَثِّلُ بِنْيَةً مُعَقَّدَةً تَقُودُ إِلَى الْفَسَادِ وَالرُّكُودِ وَالتَّخَلُّف. وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ الظُّلْمُ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ وُجِدَ مُسْتَبِدٌّ عَادِلٌ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الصُّدْفَةِ السَّعِيدَةِ الَّتِي لَا تَتَكَرَّرُ كَثِيرًا، وَلَا يَتَوَجَّبُ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ انْتِظَارُهَا، فَالْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ وَلَوْ كَانَ عَادِلًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِيمَ مُجْتَمَعًا عَادِلًا بِذَرِيعَةِ قَيْدَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ:

القَيْدُ الْأَوَّلُ: يَتَعَلَّقُ بِطَبِيعَةِ الْمُجْتَمَعِ الْحَدِيثِ، الْمَوْسُومِ بِالِاتِّسَاعِ وَالْقَائِمِ عَلَى التَّخَصُّصِ، حَيْثُ يَصْعُبُ عَلَى الْحَاكِمِ كَفَرْدٍ مُمَارَسَةُ عَدْلِهِ فِي كُلِّ أَرْجَاءِ دَوْلَتِهِ، فَطَاقَتُهُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَحْدُودَةٌ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْمُتَابَعَةِ ضَئِيلَة. كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى فَهْمِ جَمِيعِ الظَّوَاهِرِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، وَاتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ فِي كُلِّ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُهُ نَتِيجَةً لِتَقْسِيمِ الْعَمَلِ الْمُعَقَّدِ. وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ إِمَّا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى فَهْمِ حَقِيقَةِ كُلِّ مَا يَرَاهُ. وَفِي الْحَالَتَيْنِ سَيَكُونُ مُضْطَرًّا لِلِاسْتِعَانَةِ بِآخَرِينَ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَرَهُ بِنَفْسِهِ كَرِجَالِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَة. أَوْ يُحَلِّلُوا لَهُ مَا اسْتَغْلَقَ عَلَيْهِ فَهْمُهُ كَرِجَالِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الْبِيئَةُ السِّيَاسِيَّةُ مُغْلَقَةً تَفْتَقِدُ إِلَى الشَّفَافِيَّةِ وَالرَّقَابَةِ الْقَانُونِيَّةِ وَالْبَرْلَمَانِيَّةِ الْفَعَّالَةِ، وَالصَّحَافَةِ الْحُرَّةِ، تَحَوَّلَ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ إِلَى بِطَانَةِ سُوءٍ، وَجَمَاعَةِ مَصْلَحَةٍ، لَا تَتَنَافَسُ مَعَ آخَرِينَ لِلْفَوْزِ بِالسُّلْطَةِ، بَلْ تَجِدُ السُّلْطَةَ ثَمَرَةً يَانِعَةً فِي يَدِهَا، تَسْتَخْدِمُهَا فِي تَدْبِيرِ مَنَافِعِهَا.

القَيْدُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمَحْدُودَةِ بِالزَّمَنِ، فَالْحَاكِمُ مَهْمَا كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ، يَمْلِكُ عُمْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَسُرْعَانَ مَا يَرِثُهُ آخَرُونَ، يَظَلُّ عَدْلُهُمْ أَمْرًا مُحْتَمَلًا، مُجَرَّدَ صُدْفَةٍ أُخْرَى سَعِيدَةٍ غَالِبًا مَا تَكُونُ نَادِرَةً، أَمَّا اسْتِبْدَادُهُمْ فَأَمْرٌ مُؤَكَّدٌ، إِذْ لَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخُ، تَقْرِيبًا، حَاكِمًا عَادِلًا وَرِثَهُ آخَرُ أَعْدَلَ مِنْهُ، فِيمَا عَرَفَ كَثِيرًا مِنَ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ وَرِثَهُمْ مَنْ هُوَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ. وَمِنْ ثَمَّ يُعْطِينَا التَّارِيخُ دَرْسًا أَثِيرًا وَهُوَ: أَنَّ الْمُسْتَبِدَّ الْعَادِلَ لَيْسَ إِلَّا صُدْفَةً سَعِيدَةً، قَدْ تُوَاتِي مُجْتَمَعًا مَا فِي لَحْظَةٍ مَا غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَتَوَجَّبُ انْتِظَارُهَا.

لن تكون المجتمعات سيّدة نفسها مالكةً لمصيرها إلّا بالحرِّية

أَمَّا الْعَدْلُ فَقِيمَةٌ كُبْرَى يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ الْمُجْتَمَعَاتِ التَّأْسِيسُ لَهَا، لِتَكُونَ دَيْدَنَهَا، فَتَبْقَى سَيِّدَةَ نَفْسِهَا، مَالِكَةً لِمَصِيرِهَا، عَصِيَّةً عَلَى الْغوَايَةِ وَالْخِدَاعِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحُرِّيَّةِ، حَيْثُ الْقَوَاعِدُ الْوَاضِحَةُ تُنَظِّمُ عَمَلَ الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ، وَالْقَوَانِينُ الصَّارِمَةُ تَضْبِطُ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمِقْيَاسِ الصَّحِيحِ. لَكِنَّ مُشْكِلَةَ الْمُسْتَبِدِّينَ الْعَادِلِينَ الْجَوْهَرِيَّةَ هِيَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ دَوْمًا كَعَاشِقَيْنِ، يَتَصَوَّرَانِ فِي بَدْءِ عَلَاقَتِهِمَا أَنَّ مَشَاعِرَهُمَا غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ فِي صِدْقِهَا، وَأَنَّ زَوَاجَهُمَا سَيَكُونُ اسْتِثْنَائِيًّا فِي نَجَاحِهِ، فَإِذَا بِهِمَا بَعْدَ قَلِيلٍ يَصِيرَانِ أَكْثَرَ النَّاسِ فَشَلًا، وَأَنَّهُمَا مَحْضُ حَالَةٍ تَكَرَّرَتْ مَلَايِينَ الْمَرَّاتِ.

يَتَصَوَّرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدُّونَ أَنَّ اسْتِبْدَادَهُمْ سَيَأْتِي بِعَدْلٍ اسْتِثْنَائِيٍّ وَازْدِهَارٍ غَيْرِ مَسْبُوقٍ، فَإِذَا بِهِمْ يَرْحَلُونَ بَعْدَ سَنَوَاتٍ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، تَارِكِينَ وَرَاءَهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِلَا عَدْلٍ، فَالْعَدْلُ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ، نَتِيجَةٌ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمُقَدِّمَاتِهَا، فَهَلْ يَتَعَلَّمُ الْمُسْتَبِدُّونَ؟!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن