هذا التحدّي كنتُ قد تناولتُه بالفعل في مقالي السابق، على منصّة "عروبة 22" تحت عنوان "اقتصاديات الذكاء الاصطناعي في الوطن العربي: الواقع والفرص"، حيث أكّدت هناك أنّ هذه التكنولوجيا ليست ترفًا فكريًا، بل تمثّل رافعةً حقيقيةً للتنمية. ويأتي هذا المقال امتدادًا لتلك الرؤية، لكن من زاويةٍ مختلفةٍ أركّز فيها على التوازن الدقيق بين الفرص الهائلة والمخاطر الجدية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على الاقتصادات العربية، خاصةً في ظلّ التحوّلات الجذرية التي يشهدها سوق العمل عالميّا.
تتوقع تقارير "ماكينزي" (McKinsey & Company) أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما بين 13 و15 تريليون دولار إلى النّاتج العالمي بحلول 2030. وتُشير تقديرات "برايس ووترهاوس كوبرز" (Pricewaterhouse Coopers) إلى أنّ حصّة الشرق الأوسط من هذه القيمة قد تبلغ 320 مليار دولار، منها 135 مليارًا لمصر والسعودية وحدهما. لكنّ هذه الأرقام تتحقّق فقط إذا اعتمدت الدول سياسات تعليمية وتكنولوجية متطوّرة، بينما يتراجع نصيبها إذا اكتفت بدور المستهلك للتكنولوجيا.
البطالة سترتفع إلى مستويات غير مسبوقة إذا لم تنجح الحكومات العربية في توسيع برامج إعادة التأهيل والتدريب
وتُسجّل دولٌ عربية خطواتٍ متقدمةً في هذا المضمار؛ إذ أطلقت الإمارات العربية المتحدة "الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031"، ووجّهت استثماراتٍ ضخمةً لتطوير البنية التحتية الرقمية. وفي مسارٍ موازٍ، جعلت المملكة العربية السعودية من الذكاء الاصطناعي ركيزةً أساسيةً ضمن "رؤية 2030" لتحقيق التحوّل الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل.
في المقابل، لا تزال دولٌ عربية أخرى في مراحل أولية من تبنّي هذه التقنية، حيث تفتقر إلى استراتيجياتٍ واضحةٍ وطموحةٍ في هذا المجال. وهذا التباين لا يعكس تفاوتًا في القدرات فحسب، بل يهدّد بتعميق الفجوة الرقمية وزيادة الاعتماد على الاستيراد التكنولوجي، ممّا يُضعف القدرة التنافسية على المدى الطويل.
الإنتاجية مقابل الوظائف المهدّدة
يتميّز الذكاء الاصطناعي بقدرته على رفع مستويات الإنتاجيّة وخفض تكاليف التشغيل بشكل كبير، حيث كشفت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي (2024) أنّ المؤسّسات التي تبنّت هذه التقنيات سجّلت زيادةً متوسطةً في الإنتاجية بلغت 20%. إلّا أنّ هذه المكاسب لا تخلو من تحدّياتٍ جسيمةٍ، فبيانات "منظمة العمل الدولية" تُحذّر من أنّ "الأتمتة" قد تؤدّي إلى إحلال ما يصل إلى 30% من الوظائف في قطاعات رئيسيّة في الشرق الأوسط! لا سيما في المجالات الأكثر تنظيمًا مثل الخدمات المالية والنقل والتصنيع.
ويزيد الوضع تعقيدًا أن سوق العمل العربي يستقبل أكثر من 3 ملايين شاب سنويًا، بينما تعجز فرص العمل التقليدية عن استيعابهم. وإذا لم تنجح الحكومات في التوفيق بين نشر تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوسيع برامج إعادة التأهيل والتدريب، فإنّ البطالة الهيكلية سترتفع إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. وأظهرت دراسة للبنك الدولي (2023) أنّ 47% من الوظائف في العالم العربي عرضة للاستبدال الجزئي أو الكلّي بفعل الأتمتة.
التجارب الدولية: الصين والهند نموذجًا
تقدّم تجربتا الهند والصين نماذج استرشادية بالغة الأهمية للعالم العربي. ففي الهند، تمّ التركيز على الاستثمار في رأس المال البشري، لا سيما ضمن قطاع تكنولوجيا المعلومات، ممّا حوّل الذكاء الاصطناعي إلى محرّكٍ رئيسيّ لصادراتها من الخدمات الرقمية التي فاقت 150 مليار دولار سنويا.
النجاح في الذكاء الاصطناعي يتطلّب بناء منظومة متكاملة تشمل التعليم والبحث العلمي والسياسات الصناعية الداعمة
أمّا الصين، فقد انتهجت منهجًا شاملًا منذ إطلاق استراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي عام 2017، فعزّزت التعاون بين دعم الشركات الناشئة وتمويل الأبحاث الأساسية وتوسيع نطاق التطبيقات في قطاعاتٍ حيويةٍ كالصحة والتعليم والنقل، وهو ما أثمر عن مساهمة الاقتصاد الرقمي بما نسبته 41% من النّاتج المحلي الإجمالي بحلول 2024. وتكشف هذه النماذج أنّ النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي ليس رهنًا بامتلاك التقنية فحسب، بل يتطلّب بناء منظومةٍ متكاملةٍ تشمل التعليم والبحث العلمي والسياسات الصناعية الداعمة.
الأمن القومي والتحوّلات الاستراتيجية
يفرض الذكاء الاصطناعي تحدّيات جديدة تتجاوز الاقتصاد لتشمل الأمن القومي، إذ تواجه المنطقة العربية بالفعل تهديداتٍ في مجال الأمن السيبراني، حيث ارتفعت الهجمات الإلكترونية بنسبة 17% في 2024 وفق تقارير "الاتحاد الدولي للاتصالات".
إذا لم تعزّز الحكومات العربية منظوماتها الدفاعية فستصبح عرضةً لاختراقات تمسّ القطاع المالي
ويُستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدرات كلّ من المهاجمين والمُتصدّين للهجمات على حدٍّ سواء، ما يجعل الاستثمار في أمن المعلومات ضرورةً لا ترفا. وإذا لم تعزّز الحكومات العربية منظوماتها الدفاعية، فإنّها ستصبح عرضةً لاختراقات تمسّ البنية التحتية الحيوية والقطاع المالي.
التعليم وإعادة التأهيل كمدخل أساسي
يفرض التحوّل التكنولوجي إعادة النظر جذريًا في نظم التعليم والتدريب. فلا يمكن للأسواق العربية أن تحافظ على استقرارها الاجتماعي إذا لم تعزّز قدرات الشباب على التكيّف مع اقتصادٍ رقميّ. وتُشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أنّ كلّ وظيفة تُفقد بفعل الأتمتة، يمكن أن تقابلها وظيفة جديدة إذا وُجهت الاستثمارات نحو الابتكار وريادة الأعمال. ويعني ذلك أن بناء منظومات تعليمية مرنة واستثمارات ضخمة في التدريب المهني أصبح شرطًا لبقاء الاقتصادات العربية في دائرة المنافسة.
الدول التي تنجح في توظيف الذكاء الاصطناعي ستتمكّن من تحقيق قفزة إنتاجية نوعية ترفع من قدراتها التنافسية
يضع الذكاء الاصطناعي الاقتصادات العربية أمام مفترق طرق حاسم، حيث إنّ الدول التي تنجح في توظيف هذه التقنية ستتمكّن من تحقيق قفزة إنتاجية نوعية، ترفع من قدراتها التنافسية، وتضعها في مصاف الاقتصادات الفاعلة عالميًا. في المقابل، فإنّ التراخي والاستمرار في نمط الاعتماد على الاستهلاك، سيفتح الباب أمام تداعيات خطيرة، أبرزها تفاقم معدّلات البطالة، وتعميق الفجوة مع الاقتصادات المتقدّمة.
(خاص "عروبة 22")