وجهات نظر

عن العقل السياسي العربي.. المنهزم

تبدو حالة الانفصال بين العقل السياسي المسيطر عربيًا عن زمن العالم المتحوّل، والواقع الموضوعي المتغيّر داخل المجتمعات العربية، بارزة ومعها الاختلالات في النظام الإدراكي لبعض الحكّام، وتمدّد الفشل على عديد الصعد الداخلية، وفي إدارة السياسة الخارجية، وهو ما يطرح أسئلة عديدة كمدخل لمحاولة مقاربة العقل الحاكم.

عن العقل السياسي العربي.. المنهزم

من هذه الأسئلة على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:

هل المقاربات الفلسفية لتحليل محدّدات وعمليات العقل السياسي العربي ومكوّناته كافية لسبر أغواره، وخلفيات تكوينه على نحو ما قام به بعض الفلاسفة الكبار من عابد الجابري وآخرين؟، على أهمية ما قاموا به، والانتقادات المتبادلة فيما بين بعضهم بعضا؟، هل المقاربة الثقافية لتشكّلاته قادرة على فهمه وتحليله؟، هل هي المقاربة السياسية في زمن ما بعد الأيديولوجيا؟.

هل هناك عقل سياسي عربي واحد أم أنماط متعدّدة للعقل السياسي العربي؟، وهل هناك مشتركات فيما بينها؟!.

الوعي السياسي المحلي المحدود أدى إلى إعادة إنتاج الانقسامات بين المكوّنات الرئيسة داخل المجتمعات العربية

الأسئلة السابقة وغيرها، وراءها المقاربات التي سادت عن العقل السياسي الذي بدا واضحًا في جذوره التاريخية والتراثية، وغامضًا في إمكانية تحليله في المرحلة التاريخية المعاصرة والراهنة. مرجع محاولة فهمه هو الفشل الذريع في جميع المراحل منذ مرحلة بناء دولة ما بعد الاستقلال، وتقويض بعض تقاليد وهياكل سياسة الإدارة غير المباشرة البريطانية، والإدارة المباشرة الفرنسية في البلدان العربية التي خضعت للكولونيالية البريطانية والفرنسية "المنحطة"، وعدم تطويرها وتجديدها لكي تتناسب مع مرحلة بناء الدولة الوطنية، والاستقلال الوطني، وبناء نماذج للتنمية في مجتمعات انقسامية.

في غالبها! أدّت عمليات التفكير والإدراك والوعي السياسي المحلّي المحدود إلى إعادة إنتاج الانقسامات الداخلية بين المكوّنات الرئيسة داخل المجتمعات العربية، وفشل سياسة بوتقة الصهر بقوة أجهزة الدولة القمعية. وغياب سياسات للاندماج والتكامل الداخلي توظف على نحو فعّال التعدّد في إثراء المكوّنات الاجتماعية والثقافية في إطار ديمقراطي يقبل بالتعددية ويؤسس لبناء موحّدات جامعة عابرة للمكوّنات الأساسية، ويعترف بها ولا ينفيها ويقصيها من السياسات العامة، في إطار مشروع وطني للتنمية الشاملة.

من تجليات فشل وهزيمة العقل السياسي المسيطر ما يلي تمثيلًا لا حصرًا:

1-الفشل في صياغة وتطبيق مشروع وخطط، وبرامج ملائمة وعقلانية، ومتوازنة وعادلة في التوزيع  للتنمية الشاملة دون إفراط في الأهداف، وتستصحب الواقع الموضوعي للمكونات الرئيسة للمجتمع، وتجارب التنمية الناجحة في الدول التي حقّقت نجاحًا في مشروعاتها.

2-إعادة إنتاج علاقات التبعية مع المركز الأوروأمريكي الإمبريالي والعولمي بعد ذلك، وتأثيرات ذلك على السلطة وتركيبها الاجتماعي والسياسي وبقائها، أو انقلاباتها الداخلية.

3-ميل بعض العقل السياسي المسيطر إلى النزاعات البينية مع دول الجوار العربية/العربية، وأثر ذلك السلبي على الفكرة العربية الجامعة. واستخدام الفكرة الوطنية في مواجهة العروبة بقطع النظر عن شعارات النظام الأيديولوجية.

4-الخلل في بناء سياسات خارجية تتّسم بالتوازن والرشد السياسي، وتخدم استقلالية القرار السياسي، وتدعم سياسات التنمية.

5-إخصاء التعددية السياسية والدينية والمذهبية والعرقية واللغوية والقومية والقبلية والطائفية والعشائرية بالقمع، ومن ثمّ كبح حركية التعددية الثقافية وتفاعلاتها في التنمية والفاعلية السياسية والإنتاجية، ومن ثم الفشل في بناء الدولة القومية باستثناء مصر والمغرب.

6-قمع العقل الحرّ والنقدي داخل الجماعات الثقافية، والأكاديمية في الجامعات، والميل الدائم لوصم الأحرار بالعمالة واللاوطنية والموالاة للخارج!.

7-احتكار الخطاب الشمولي والسلطوي والأمني والاستخباراتي والإعلامي الرسمي التابع ومواليهم، لمفهوم ومعنى الوطنية الملتبس والمتغيّر من قبل هذه الأجهزة!.

8-غلبة النظرات الإيديولوجية على الواقع الموضوعي الداخلي والإقليمي والعالمي، ومفارقتها لحقائق القوة، وعمليات التغيّر والتحوّل في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولعمليات الانتقال للثورة الصناعية الرابعة، وانتقال الصراع الدولي إلى الصين وجنوب شرق آسيا.

9-التوظيف السياسي المفرط لديانة الحاكم والأغلبية الشعبية في قمعها باسم الدين وترويضها وضبط حركتها، وتقييد إمكانات تحرّرها وفاعليتها السياسية والاجتماعية في التنمية وتكوين الفرد الحر. ومن ثم توظيف الدين في نظام الشرعية السياسية والتعبئة الاجتماعية ضد المعارضات السياسية المدنية.

10-احتكار العقل السياسي المسيطر، والحاكم لمفهوم الآلوهية وتوظيفه في الهيمنة الرمزية والدينية، وفي الإسناد السياسي للحكم، بوصفه مفوضًا ومدعومًا من الله عز وجل – والعياذ بالله -، وفي مواجهة الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفية المعارضة.

لا شك أنّ هذا المنزع السياسي في الخلط الوظيفي بين الدين والسياسة السلطوية والشمولية أدى إلى آثار وانعكاسات سلبية في كبح الدوافع الشخصية وقمعها وإلى ترسيخ الازدواجيات في السلوك الاجتماعي، وبين القول والفعل، والتعبيرات الدينية في المراوغة والمداراة ونفي المسئولية عن الذات، والكذب والمخاتلة في الحياة اليومية وفي أجهزة الدولة، وأداء الصلوات أثناء العمل أمام طالبي الخدمات العامة، بينما الأيدي مفتوحة لتلقي الرشى.. إلخ.

11-غياب التراكم والرأسمال الخبراتي والتاريخي، ومعرفة الأزمات والمشاكل السابقة وأسبابها والفشل في معالجتها، وإدراك التغيرات والتحولات المجتمعية والسياسية والثقافية.

12-عدم الاهتمام بمراكز البحث، وفرض قيود علي عملها وخططها البحثية، والانفصال بينها، وبين مركز صنع القرار.

13-الركود السياسي، واعتقال مصادر الحيوية السياسية، والاجتماعية، والثقافية داخل التركيب الاجتماعي، والآثار السلبية للركود السياسي على العمل الجماعي والشخصي، والإنتاج، والمسؤولية.

14-الانفجار الهوياتي، ونزاعاته لفشل العقل الحاكم والطبقة السياسية وأجهزتها وسياساتها في بناء هوية جامعة عبر الجوامع المشتركة العابرة للانقسامات داخل المكوّنات الأساسية أيًا كانت من خلال التفاعلات السياسية والثقافية والاجتماعية ومن خلال السياسة التعليمية.

15-تمدّد ظواهر "الأنامالية السياسية والاجتماعية"، وانكسار الانتماء الوطني، وشيوع ظواهر الاغتراب داخل بعض شرائح الجموع الغفيرة.

16-موت السياسة كسمة للنظام السياسي الشمولي والتسلطي، والقيود على الحريات العامة، وخاصة الحق في التعبير والنشر والبحث الأكاديمي الحرّ والمستقل، والحقّ في التجمع والتظاهر السلمي، ومصادرة المبادرات الشخصية والجماعية وإنشاء الجمعيات الأهلية، والقيود على الحريات الدينية والضمير الحرّ.. إلخ.

17-العجز في الفكر والخيال السياسي الخلّاق في تجديد النظامين الشمولي والتسلّطي ومصادر التجنيد السياسي للطبقة السياسية الحاكمة، والفشل في بناء سند وقاعدة اجتماعية يرتكز عليها النظام، والاعتماد على أجهزته القمعية، وبعض الموالين والأتباع من التكنوقراط والبيروقراط والإعلاميين من خدم النظام، وسلطته المسيطرة.

18-فشل الأنظمة والسياسات التعليمية، وتردّي مستوياتها وكوادر الجماعات التعليمية في كافة أنظمة التعليم من ما قبل الابتدائي إلى الجامعي، وتعدّد أنظمة التعليم بين المدني والديني وبين العام والخاص، والأخطر اعتماده على الحفظ والاستذكار، وليس على بناء العقل النقدي للطلاب، وانفصال التعليم ومخرجاته عن احتياجات سوق العمل، ومن ثم بات تعليمًا لعاطلي المستقبل.

19-فشل غالب الأجيال الشابة في المساهمة في التنظيم وإدارة عمليات الانتفاضات الجماهيرية "الثورية" في سياقات الربيع العربي المجازي!.

يبقى السؤال؛ هل نحن إزاء عقل سياسي عربي واحد أم أنماط متعدّدة بها بعض المشتركات السوسيو ثقافية؟! هل ثلاثية العقيدة، والقبيلة، والغنيمة مستصحبة في العقل السياسي الذرائعي واليومي ما بعد الاستقلال وإلى الآن؟!.. هل الشيخوخة السياسية تمثل بعض من سمة العقل السياسي العربي الفاشل؟.

إنّ تكالب الأزمات وفوائضها التاريخية تستحقّ معالجات لأنماط العقل اللاتراكمي المسيطر عربيًا مع التركيز على مرحلة ما قبل، وما بعد الربيع العربي في المقالات القادمة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن